“تَوَكَّلنا عَلى رَبِّ السَماءِ”.. شعر: علي بن الجَهم
تَوَكَّلنا عَلى رَبِّ السَماءِ
وَسَلَّمنا لِأَسبابِ القَضاءِ
وَوَطَّنّا عَلى غِيَرِ اللَيالي
نُفوساً سامَحَت بَعدَ الإِباءِ
وَأَفنِيَةُ المُلوكِ مُحَجَّباتٌ
وَبابُ اللَهِ مَبذولُ الفِناءِ
فَما أَرجو سِواهُ لِكَشفِ ضُرّي
وَلَم أَفزَع إِلى غَيرِ الدُعاءِ
وَلِم لا أَشتَكي بَثّي وَحُزني
إِلى مَن لا يَصَمُّ عَنِ النِداءِ
هِيَ الأَيّامُ تَكلِمُنا وَتَأسو
وَتَجري بِالسَعادَةِ وَالشَقاءِ
فَلا طولُ الثَواءِ يَرُدُّ رِزقاً
وَلا يَأتي بِهِ طولُ البَقاءِ
وَلا يُجدي الثَراءُ عَلى بَخيلٍ
إِذا ما كانُ مَحظورَ الثَراءِ
وَلَيسَ يَبيدُ مالٌ عَن نَوالٍ
وَلا يُؤتى سَخِيٌّ مِن سَخاءِ
كَما أَنَّ السُؤالَ يُذِلُّ قَوماً
كذاكَ يُعِزُّ قَوماً بِالعَطاءِ
حَلَبنا الدَهرَ أَشطُرَهُ وَمَرَّت
بِنا عُقَبُ الشَدائِدِ وَالرَخاءِ
فَلَم آسَف عَلى دُنيا تَوَلَّت
وَلَم نُسبَق إِلى حُسنِ العَزاءِ
وَلَم نَدَعِ الحَياءَ لِمَسِّ ضُرٍّ
وَبَعضُ الضُرِّ يَذهَبُ بِالحَياءِ
وَجَرَّبنا وَجَرَّبَ أَوَّلونا
فَلا شَيءٌ أَعَزُّ مِنَ الوَفاءِ
تَوَقَّ الناسَ يَاِبنَ أَبي وَأُمّي
فَهُم تَبَعُ المَخافَةِ وَالرَجاءِ
وَلا يَغرُركَ مِن وَغدٍ إِخاءٌ
لِأَمرٍ ما غَدا حَسَنَ الإِخاءِ
أَلم تَرَ مُظهِرينَ عَلَيَّ غِشّاً
وَهُم بِالأَمسِ إِخوانُ الصَفاءِ
بُليتُ بِنَكبَةٍ فَغَدَوا وَراحوا
عَلَيَّ أَشَدَّ أَسبابِ البَلاءِ
أَبَت أَخطارُهُم أَن يَنصُروني
بِمالٍ أَو بِجاهٍ أَو بِراءِ
وَخافوا أَن يُقالَ لَهُم خَذَلتُم
صَديقاً فَاِدَّعَوا قِدَمَ الجَفاءِ
تَضافَرَتِ الرَوافِضُ وَالنَصارى
وَأَهلُ الإِعتِزالِ عَلى هِجائي
فَبَختَيشوعُ يَشهَدُ لِاِبنِ عَمروٍ
وَعَزّونٌ لِهارونَ المُرائي
وَما الجَذماءُ بِنتُ أَبي سُمَيرٍ
بِجَذماءِ اللِسانِ عَنِ الخَناءِ
وَعابوني وَما ذَنبي إِلَيهم
سِوى عِلمى بِأَولادِ الزِناءِ
إِذا ما عُدَّ مِثلُهُمُ رِجالاً
فَما فَضلُ الرِجالِ عَلى النِساءِ
عَلَيهِم لَعنَةُ اللَهِ اِبتَداءً
وَعَوداً في الصَباحِ وَفي المَساءِ
إِذا سَمَّيتُهُم لِلنّاسِ قالوا
أُولئِكَ شَرُّ مَن تَحتَ السَماءِ
أَنا المُتَوَكِّلِيُّ هَوىً وَرَأياً
وَما بِالواثِقِيَّةِ مِن خَفاءِ
وَما حَبسُ الخَليفَةِ لي بِعارٍ
وَلَيسَ بِمُؤيسي مِنهُ التَنائي
—————————–
علي بن الجهم القرشي (188 هـ – 249 هـ / 803 – 863م)،
هو علي بن الجهم بن بدر بن مسعود بن أسيد القرشي، وكنيته أبو الحسن وأصله من خراسان، المولود في 188 للهجرة في بغداد، سليلاً لأسرة عربية متحدرة من قريش أكسبته فصاحة لسان وأحاطت موهبته الشعرية بالرزانة والقوة، وحمتها من تأثير مدينة بغداد التي كانت تعج بالوافدين من أعاجم البلاد المحيطة بها.
نشأ علي بن الجهم في أسرة جمعت بين العلم والأدب والوجاهة والثراء، فقد كان أخوة الأكبر محمد بن الجهم مولعًا بالكتب وقراءتها، يروي عنه الجاحظ أنه كان معدودًا من كبار المتكلمين جمع بين ثقافتي العرب واليونان وكان يجادل الزنادقة في مجالس المأمون، في هذه البيئة نشأ علي، ولكنه اهتم بالثقافة العربية دون اليونانية ووهب نفسه للشعر وأعرض عن مذهب المعتزلة ومال إلى مذهب أهل الحديث وفي ظل الدولة العباسية في فترة كانت مليئة بالاختلافات المذهبية والسياسية تحت شعار الإسلام. وقد عاصر ثلاثة خلفاء عباسيين هم المأمون، والمعتصم والواثق.
لم يقرب من أي خليفة عباسي، ولكن كان يوثق علاقاته الفكرية والشعرية مع رموز ذلك العصر ممن يتفقون معه في أفكاره، فربطته علاقة فكرية جميلة مع الإمام أحمد بن حنبل، وعلاقة شعرية أجمل مع الشاعر أبو تمام. ولم يقبل على باب الحكم إلا عندما تولى الحكم الخليفة المتوكل على الله الذي اشتهر بانتصاره لمذهب أهل الحديث الذي آمن به ابن الجهم. وكان الخلفاء الثلاثة السابق ذكرهم كان يتبعون فكر المعتزلة.
كان على بن الجهم يستعد للجهاد في سبيل الله ودين الإسلام أمام جحافل الروم التي كانت تهدد الدولة الإسلامية. فانتقل إلى حلب ثم خرج منها بجماعة للجهاد، فاعترضه جمع من أعدائه من الأعراب الكلبيين، وأعداء أفكاره الدينية، فقاتلهم حتى مات بين أيديهم عام 249 للهجرة.