حاتم سلامة يكتب: صفحة من جهاد معاوية

بعض أصدقائنا يزعم أن الدولة الأموية لم تحقق على مستوى الفتوحات أي نصر أو ظفر، وأن الفتوح الحقيقية المهمة والقوية تمت في عهد الراشدين، وذلك محاولة واضحة لاستقلال الجهد الأموي في خدمة الإسلام حتى حينما تَعرض المتحدث لفتح الأندلس الذي يعد مفخرة الفتوح الإسلامية، ذكر أن هناك بعض المدن التي لم يستطع ابن نصير ومن معه فتحها، أي أن كل شيء قليل هين لا حجم له ولا قيمة، وسبحان الله لقد قرأت كثيرا في التاريخ عن جهود الأمويين في نشر الإسلام وبلائهم العظيم في الفتوحات وتوغلهم شرقا وغربا حتى شُبه عهد الوليد بن عبد الملك بعهد عمر بن الخطاب في كثرة الفتوحات، بل لله در قائل حينما ذكر أن الفتح توقف بتوقف الأمويين ولم تأت دولة بعدهم فزادت على ما فتحوه.. اللهم إلا ما كان من العثمانيين.
لقد كان منهم أعظم الفاتحين كعقبة بن عامر وقتيبة بن مسلم وموسى بن نصير وغيرهم من الفرسان الكبار.
والحق أن هذا الادعاء والمحاولة لاستقلال والاستهانة بجهد هذه الدولة العتية الفتية في خدمة الإسلام، هو استنكار كبير للتاريخ ولا أستطيع الرد عليه في هذا المقال اليسير، وذكر الجهود العظيمة للفتوحات الأموية التي يكفي لمن أراد الاطلاع عليها أن يذهب إلى كتب التاريخ وموسوعاته وينظر ويتأمل ويحكم، وليحذر أن تقابله مقالة للشيعة تنفي أي خير أو فضل لبني أمية.!
لكنني هنا بالتحديد أذكر رسالة علمية قُدمت في جامعة الأزهر لنيل درجة الدكتوراه عام 2000 وقد أهداني إياها أستاذي فضيلة الدكتور (محمود عمارة) منذ أكثر من 23 عامًا وكانت تتناول الفتوحات الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه وما خلفته من آثار دعوية.. رسالة دكتوراه تتحدث عن جهاد معاوية وحده ناهيك عمن جاء بعده من الخلفاء الأمويين الذين لم يكفوا عن صراع العالم انتصارًا لدين الله.
وهنا نحب أن نذكر موقعة واحدة من مواقع الجهاد التي سيرها معاوية رضي الله عنه والتي يتبدى لنا من خلال قراءتها كم كان طموحا مؤمنا مجاهدا ساعيا لنشر الإسلام باذلا فيه الغالي والنفيس.
جاء في الرسال تحت عنوان: غزوة القسطنطينية سنة تسع وأربعين
كانت هذه هي أولى الحملات على مدينة قيصر – القسطنطينية – وكان القائد العام في هذه الغزوة، سفيان بن عوف الأزدى، عقد له اللواء بغزو القسطنطينية سيدنا معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه.. فصير معه جيشاً عظيماً إلى بلاد الروم، وأمر ابنه يزيداً بالغزاة معهم فتثاقل واعتل: فلما وجد سيدنا معاوية -رضي الله عنه- ما أصاب الناس في هذه الغزوة من جوع شديد، أقسم على يزيد ولده أن يلحق، ومن معه من جنود، بسفيان بن عوف ببلاد الروم فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه، وكان في هذا الجيش كوكبه من الصحابة الأجلاء -رضوان الله عليهم- من أمثال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري، وعبد العزيز بن زرارة الكلابي فأوغلوا في بلاد الروم، حتى بلغوا القسطنطينية، فاقتتل المسلمون والروم في بعض الأيام واشتدت الحرب بينهم، فلم يزل عبد العزيز بن زراة يتعرض للشهادة في سبيل الله، فلم يقتل، ثم حمل على الروم بنفسه -رضى الله عنه- فقتل فيهم وانغمس بينهم فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه – رضى الله عنه. فبلغ خير قتله معاوية -رضى الله عنه-، فقال لأبيه: والله هلك فتى العرب فقال: ابني أو ابنك؟، قال سيدنا معاوية: ابنك فأجرك الله، فقال:
فإن يكن الموت أودى به
وأصبح مخ الكلابي زيرا
فكل فتى شارب كأسه
فإما صغيراً وإما كبيرا
ثم رجع يزيد والجيش إلى الشام.
يقول الباحث في تعليقه مستنتجا من الخبر:
«تفجر الروح الإسلامية الدعوية في قلوب الآباء وإيثارهم واجب نشر الدين وتأمين الدعوة على عاطفة الأبوة، فهذا أمير المؤمنين معاوية -رضي الله عنه- يقدم واجب الجهاد في سبيل الله على عاطفة الأبوة بإصراره -رضى الله عنه- على خروج يزيد ولده.
مع المقاتلين -نصرة لله ولدينه-، وهذا والد عبد العزيز بن زرارة يسر بموت ولده في ساحة القتال شهيدا في سبيل الله، وفي هذا ما يدل على أن المركوز في قلوب المسلمين في هذا الوقت كان تقديم أمر الله ورسوله على ما عداهما، وأن الجهاد في سبيل حماية الدين ونشر نوره كان من أكد الواجبات التي اضطلع بها سيدنا معاوية وكل المسلمين الدين التفوا حول راية واحدة، يدافعون عنها ويستميتون في سبيل تثبيتها في الأرض وهي الدعوة إلى دين الله ونشره وحمايته -وإن هذا من سيدنا معاوية ومن معه رضوان الله عليهم- تطبيق عملي لقول الله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين)
وقول رسول الله ﷺ في معرض تبيانه الأمارات ما إن وجدت في امرئ فإنه يذوق حلاوة الإيمان ومن بينها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما))
لهذه الثوابت الإيمانية قدم سيدنا معاوية أمر الله ورسوله على ما سواهما فأخرج يزيد ولده ليقاتل مع المقاتلين وهو يعلم تمام العلم أنها حرب ضروس لا يلين فيها أحد في وجه الآخر.
حقق هذا الجيش الذي وجه إلى القسطنطينية البشارة الدعوية التي بشر بها النبي الله بغزو مدينة قيصر، ولقد أبان النبي في بشارته أن كل من حضر هذه الغزوة مغفور له، وهاكم حديثه الله الذي يدل لذلك قال رسول الله ﷺ: (أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم) رواه البخاري
فكان أول الجيوش التي غزت مدينة قيصر هو جيش سفيان بن عوف ويزيد بن معاوية ونفر من الصحابة الأجلاء – رضوان الله عليهم جميعاً»
ومن ثم نقول: لم نذكر هذا الخبر لندلل على حجم جهاد معاوية بقدر ما أردت تسليط الضوء على الروح التي كان يسير بها نحو هذا الجهاد والايمان العظيم بنشر الإسلام ورفع لوائه، حتى أن جموع من الصحابة أنفسهم كانوا تحت لوائه، فما قولنا في أمثال هؤلاء الصحب العظام؟!
كما أحب القول أن ذكر الجهاد الأموي وانتصاره للإسلام ليس معناه أننا ننكر الظلم والجور الذي تحقق من هذه الدولة، لكننا نقر به ونعلن أنه موجود ومعلوم ولا ندعي أن الحكم الأموي كان خلافة راشدة، بل كل الدولة بعد الخلافة أتت بجور وظلم حتى الخلافة العباسية التي تنتسب للبيت النبوي، حتى كل الدول التي قامت بعد ذلك باسم الشيعة وتنتصر لآل البيت كلها حكومات جائرة ظالمة، لكننا فقط أردنا أن نتحدث عن صفحة بيضاء ولا ننكر فضلهم على الإسلام رغم وجود كثير من المساوئ، وقد تخيلت أن البعض يفهم هذا، لكن كثيرا من القراء ظنوا أنني أقول بأن الحكم الأموي لا يقل عن الخلافة الراشدة عدلا ورحمة وما هكذا قلت أو أردت.