حاتم سلامة يكتب: عالم في وجه وزير

قبل بدء شهر رمضان المبارك، رحل عن عالمنا ودنيانا فضيلة العالم الجليل الدكتور (محمود توفيق سعد) عضو هيئة كبار العلماء، والحق أنني لم أكن أعرف الرجل إلا بمجرد الاسم، ولم يسبق لي أن تشرفت بلقائه خاصة وأنه كان رئيسا لقسم البلاغة بكلية اللغة العربية التي تجاور كليتي أصول الدين في مدينة شبين الكوم بالمنوفية، لكنني منذ عهد قريب بدأت أتسامع به المقربين مني وكان منهم صديقي الشيخ فتحي رزق والذي تتلمذ على يديه واصفًا لي بعض ما كان عليه الشيخ الجليل من علم ومعرفة ونزاهة وتواضع وإخلاص وزهد وهمة عالية.

استمعت مؤخرا إلى بعض المقاطع التي عرضها بعضهم بمناسبة رحيله، فبهرني حديثه عن التواضع والافتقار إلى الله، وكان مما حذر منه طلبة العلم أن لا تُقبلوا يد شيوخكم وانتصبوا وفيكم عزة فكل هذا كلام فارغ.

بهرني حديثه وهو يذكر كتاب سير أعلام النبلاء ويدعو إلى قراءته ثم يقول: اقرأ عن هؤلاء النبلاء حتى تعلم حقيقة نفسك، وأنك لا شيء بجوار هؤلاء، كلما قرأت عن نبيل منهم أدركت حقيقتك فلا ترفع عينك من الأرض ولا تقول: أنا وأنا أو علمي علمي أو أنا الدكتور العالم العلامة والحبر الفهامة وحيد زماني وفريد نوعي كل كلام كذب.

كلمات الدكتور سعد، كلمات معلمة ملهمة تدلل على رجل كان يعيش في عباءة التواضع، ويتقرب بها إلى الله، وقد شاهدت له لقطة وهو يجلس في الدرس متربعا أمام الشيخ محمد أبو موسى، ولو أن رجلا غيره وكان مثله عضوا في هيئة كبار العلماء، لتأفف أن يجلس عند ركبة شيخ، وربما تحدثه نفسه: كيف أجلس إلى شيخ وأنا الذي يجلس إلى الناس، فهو عالم وأنا عالم، لكن الرجل كان آية فريدة في التواضع وإخلاص النفس.

وأنا أكتب هذه الكلمات عنه، يتمثل في ذهني عالم من العلماء يسمي نفسه نور الدين والعالم العلامة وحجة الإسلام ويفخر بهذا العبث والتباهي الزائف الذي يدلل على اهتراء صفة التواضع في نفسه.

فما أبعد البون بين الرجلين!

ولقد كان من أجمل ما نعاه به شيخ الأزهر الطيب قوله فيه: “إن العالم الراحل كان نقيَّ الضمير، عفَّ اللسان، لا يقول إلا خيرًا، وقد تميَّز بهمة الشباب وحكمةِ الشيوخ، ولم يطلب أمرًا من أمور الدنيا، فقد عاش منكبًّا على طلب العلم ونشره”

والدكتور سعد لم يكن معروفا بالحجم الكبير، ولكن الدنيا كلها بدأت تتسامع به على نطاق أوسع من الشهرة حينما رد على وزير الأوقاف أسامة الأزهري في حديثه عن العلامة بن عثيمين وفي المرة الثانية حينما فرض وصايته على الأزهر والمنهج الأزهري وحدده بأنه الصوفي الأشعري وغير ذلك لا يكون أزهري، وقال قولته الشهيرة: (وإن رغمت أنوف) وهي الجملة التي فرح بها وهلل لها غلمان الصوفية الذين يستهويهم التعصب والمناطحة.

ثم شاء الله أن تأتي المطرقة على جبين الوزير لتفيقه من غيه وتعيد إليه انضباطه ورشده من قلم عالم قدير جدير زاهد عابد متصوف، ولكنه ليس التصوف الذي يتبعه الكثيرون ولكنه التصوف المعتدل والمتسنن الذي لا يقبل حرفا ولا فعلا ولا همسا إلى بميزان من الكتاب والسنة.

فكانت كلماته التي دوت في الأفاق:

أيها الوزير:

ما قلته إنما هو افتآتٌ على الأزهر، [تقول العرب: افْتَأَتَ فلانٌ عَلَيْنَا يَفْتَئِتُ إِذا اسْتَبَدَّ عَلَيْنَا برأْيه]

وهذا أيها الوزير – أيضًا – إقامةٌ لنفسك مقامًا لا تستطيع أن تقومه، وإن كنت يومًا رئيسًا للدولة.

إنّي أقولها لك، ولكل من صفق لمقالتك أو سكت عليها، ولم يردها عليك:

أنا – بحمدِ الله تعالى – مسلمٌ، أزهريّ، صعيدي

أنا مسلم عقيدة وعبادة، وخلقا والحمد لله رب العالمين

وأنا أزهريّ حنفيّ المذهب الفقهي منهاجَ تعلم وتعليمٍ وتفكيرٍ وتعبيرٍ، ولا أتعصب له.

وأنا صعيدي أنصر الحق بالحق احتسابًا وأرفض الضيم والنقيصة والمعرة.. وأنت كذلك صعيدي.

تلك مقومات وجودي في هذه الحياة

لست أشعريًا، ولا سلفيًا ولا معتزليا.. ولا أتخذ أي مذهب عقيدي نشأ بمدرسة “علم الكلام” إنما أنا في معتقدي آخذ بما كان عليه أصحاب سيدنا رسول صَلى الله عَليْهِ وَعلَى آلِهِ وصَحبِهِ وسَلّم وهو قائمٌ في أسفار أهل العلم، وأنا لا أقول بتأويل صفات الله وأفعاله، ولا أجسم ولا أشبه، ولا أنفي ما أثبته الله تعالى ورسُوله صَلى الله عَليْهِ وَعلَى آلِهِ وصَحبِهِ وسَلّم لنفسِه -سُبْحانَهُ وَتَعَالَى»

ويقول في رده: «وأنا أيها الوزير لست صوفيًا من صوفية الطرق والعهود والخرق الملونة والعصا السحرية المباركة، التي يتبرك بلمسها المريدون ولا من الصوفية الذين اتخذوا الرؤى والمجربات وإلهامات مصدرًا لمقالاتهم، ولن أكون إن شاء الله تعالي»

ثم كانت ثانية المفاخر في رده الجريء ودفاعه العظيم عن الشيخ ابن عثيمين وما رماه به وزير الأوقاف من اتهامات خطيرة وشديدة وغير دقيقة إذ يقول العالم الجليل محمود توفيق سعد: “قال: إن الشيخ ابن عثيمين رضي الله عنه وعن تلاميذه وعن من أحبه في الله تعالى – لا يصلح أن يكون قوله مصدرًا أو مرجعًا في البحث العلمي، وأن الأزاهرة لا يرجعون إلى قوله، وأن الشيخ ابن عثيمين يكفر الأزاهرة.

كلمات ستقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة، ويقتص منك الشيخ الجليل في اتهامك له بأنه يكفر الأزاهرة هكذا على الإطلاق، ولن تستطيع أن تثبت هذا الاتهام.

نعم قد يكون مفسقًا أو مكفرًا من يقول الرب عبد والعبد رب، ومن يقول إن الله عبد نفسه، ومن يقول إن فرعون الذي أغرقه الله تعالى مات مؤمنًا موحدًا. وأن الكفار في جهنم يوم القيامة يستعذبون النار، ولا يتألمون؛ لأن العذاب من العذوبة.. فانظر أيها الوزير كيف تكون المنجاة مما رميت به الشيخ.. الرجل ذهب على ربّه – سُبْحانَهُ وَتَعَالَى – فأنّى لك أن تتحلل منه.

جريرة وضعتها في عنقك وما كان لك أنت تفعل.

أيها الوزير أنا أقرأ لكل عالم مسلم قدر ما يُعينني الله تعالى عليه فما أيقنت أنه الحق أخذته ودعوت لصاحبه أيًّا كان، وما أيقنت أنه ليس بحق أو فيه شبهة تركته أيا كان صاحبه، ولو كان أبي رحمه الله تعالى. وأعتقد أن هذا هو منهاج كل طالب علمٍ بكتب الله وسنة رسوله صَلى الله عَليْهِ وَعلَى آلِهِ وصَحبِهِ وسَلّم احتسابًا. يقول الله تعالى:

{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء: 36] هكذا كانت كلمات الرجل الجليل الذي ينتصر للحق والصدق ويرفض التعصب وينكر الافتئات والظلم والتجني.. كلمات قوية لا تخرج إلا من رجل يتق الله ولا يطلب دنيا ولا يخاف سلطة ولا يخشى أن يكون مغضوبا عليه من وزير وصاحب سلطان فله الله ما أجمله وما أروعه وما أفهمه وما أجل عقله ووعيه وسلامة نفسه.

علمت أن الدكتور محمد من تلامذة الرائد الكبير محمد زكي إبراهيم والذي كان رحمه الله صوفيا ساميا معتدلا ليس كصوفية اليوم وما هم عليه من كثير من الزيوف والتضليل، بل كان رحمه الله ثائرا في ميدان التصوف يحاول تصحيحه وتقويمه وضبطه على الصراط المستقيم وهو الذي لم يعجب كثير من الصوفية فحاربوه ورفعوا عليه القضايا أمام القانون وحاولوا إخراجه من المجلس الصوفي الأعلى لكن الرجل كان منضبطا بالكتاب والسنة ويحارب خرافاتهم وينقي التصوف من شوائبها، ونحن لا نستغرب أن يكون مثل الدكتور توفيق من تلامذة هذا العالم النير، وقد شاء الله أن يختم الدكتور سعد حياته بالوقوف أمام شطحات الوزير ليلقى بها الله شهادة صدق ومقولة حق ورد عن عرض عالم وتصحيح لمسار الأزهر الذي يقبل كل الأفكار ويضم تحت عباءته كل المذاهب ما دامت تجعل من كتاب الله وسنة رسوله منهجها وسبيلها إلى فقه الإسلام.

ويبقى السؤال: هل يمكن أن يكون هناك عالم في شجاعة الدكتور توفيق سعد؟

أعتقد أن ما فعله لا يستطيع فعله كثيرون، لأن الرجل كان يعيش لله ويقوم بالله ولا يتحرك إلا لله.

ورغم رده القوي على الوزير الأزهري إلا أنه والحق يقال إنه يحسب للوزير أنه نعاه نعيا كريما عظيما فقال عنه: «كان رحمه الله نموذجًا للعالم الأزهري الأصيل، المتجرد للعلم، المنصرف إلى البحث والتدقيق، المتفاني في نشر المعرفة وتربية الأجيال عفيف النفس، زاهدًا في الدنيا، لا يطلب إلا وجه الله، ولا ينشغل إلا بما ينفع الناس ويمكث في الأرض»

فرحم الله عالما رائعا ضرب لنا أروع المثل في التواضع وسماحة النفس والانتصار للحق والافتقار إلى الله.

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights