أقلام حرة

حشاني زغيدي يكتب: موروثنا الثقافي في الميزان

يعَدُّ الْمَوْرُوثُ الثَّقَافِيُّ ثَرْوَةَ الْأمَّةِ وَكَنْزَهَا الثَّمِينَ، بَلْ هوَ نِتَاجُ حَرَكِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَتَفَاعُلِهِ بِبَنِّ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، يَتَوَارَثُهُ الْأَجْيَالُ جِيلًا فَجِيلٍ، وَذَلِكَ التّرَاثُ يمَثِّلُ تَنَاغُمً حَيَاتِيٌّ لِلْمُجْتَمَعَاتِ، يَظْهَرُ فِي الْعمْرَانِ وَالْمَبَانِي وَالْآثَارِ الَّتِي حَوَتْهَا الْمَتَاحِفُ، وَحَوَتْهُ رفوفُ الْمَكْتَبَاتِ مِنْ إِنْتَاجٍ فِكْرِيٍّ، ظَلَّ شَاهِدًا عَلَى نبوغِ الْإِنْسَانِ عَبْرَ الْعصُورِ، هَذَا التَّمَيُّزُ الْإِبْدَاعِيُّ فَرَضَ وجودَهُ، وَتَبَثُّ أَحَقِّيَّةَ دَيْمُومَتِهِ وَبَقَائِهِ.

وَقَدْ وَجَدْنَا مَنْ يَقِفُ مَوْقِفَ عَدَاءٍ لِهَذَا التّرَاثِ الْإِنْسَانِيِّ، فَيَرْفُضُهُ جمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَيعدُّهُ الْبَعْضُ مِنْ مَظَاهِرِ الِاعْتِقَادِ وَالتَّعَبُّدِ، وَيَعُدُّهُ آخَرُونَ مَظْهَرًا لِلشِّرْكِ وَالِانْحِرَافِ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ فِي اعْتِقَادِي يَحْتَاجُ مِنَّا لِوَقْفَةِ نَظَرٍ وَمُرَاجَعَةٍ، بَلْ الْمؤْسِفُ وَجَدْنَا الْبَعْضَ يغَالِي فَيغَالِطُ، فَيَحْجُبُ الْحَقِيقَةَ، فَيَضَعُ الْمهْتَمَّ فِي خَانَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالْحكْمُ الصَّادِرُ لَا يمَيِّزُ بَيْنَ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي ارْتَبَطَتْ بِالْمَوْرُوثِ الْإِنْسَانِيِّ، وَبَيْنَ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، الَّتِي تنَافِي الشِّرْكَ وَفَسَادَ الِاعْتِقَادِ.

هل الاحتفاء بالموروثِ انحراف وخرفات؟

وَقَدْ يَحْمِلُنِي بَسْطُ الْمَوْضُوعِ، فَأَطْرَحُ هَذَا التَّسَاؤُلَ الْوَجِيهَ، هَلْ الِاحْتِفَاءُ بِالْمَوْرُوثِ الِاجْتِمَاعِيِّ لِلتُّرَاثِ الثَّقَافِيِّ، مَعْنَاهُ إِقْرَارُ الِانْحِرَافِ وَالْخَرَفَاتِ؟!

أَقُولُ: أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ، كَوْنَ كلِّ أمَّةٍ لَهَا مَوْرُوثُهَا، يَحِقُّ لَهَا الْمحَافَظَةُ عَلَيْهِ، وَمَنْعُهُ مِنْ الِانْدِثَارِ وَالضَّيَاعِ، بَلْ وَجَبَ عَلَى الْمؤَسَّسَاتِ الرَّاعِيَةِ تَوْثِيقُهُ وَحِمَايَتُهُ، فَالْمؤْسَفُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ عَادَاتِ شعُوبِنَا اخْتَفَتْ فِي عِزِّ هَذَا التَّطَوُّرِ الْمَادِّيِّ، لَيْتَهَا تَعُودُ، فَقَدْ اخْتَفَتْ (التُّوَيْزَةُ) كَمَظْهَرٍ تَضَامُنِيٍّ، لِمَوْرُوثٍ ثَقَافِيٍّ مَغَارِبِيٍّ، تَجْمَعُ فِيهِ الْعَائِلَاتُ، وَتَتَعَاوَنُ فِيهِ الْجَمَاعَاتُ فِي الْمجْتَمَعِ، فِي الْحَيِّ أَوْ الْقَرْيَةِ مِنْ أَجْلِ الْمشَارَكَةِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ مِنْ خِلَالِ مسَاعَدَةِ محْتَاجِينَ وَالْفقَرَاءِ أَوْ تَقْدِيمِ مسَاعَدَةٍ لِمعْدِمٍ لِتَرْمِيمِ مَنْزِلٍ أَوْ تَنْظِيفِ مَسْجِدٍ أَوْ الْمسَاعَدَةِ جَنْيِ الْمَحَاصِيلِ الزِّرَاعِيَّةِ الْمتَنَوِّعَةِ.

وَهَذَا الْمَوْرُوثُ حَقٌّ لَنَا احْيَاءَهُ وَبَعْثَهُ مِنْ جَدِيدٍ فِي مجْتَمَعَاتِنَا الَّتِي مِنْ قِيَمِهَا التَّضَامُنُ وَالتَّعَاوُنُ.

وَلَوْ عدْنَا لِاسْتِرْجَاعِ فَوَائِدِ الْمَوْرُوثِ الثَّقَافِيِّ، فَقَدْ كَانَ سوقُ عكَاظٍ الْملْتَقَى الشِّعْرِيَّ وَالْفَنِّيَّ وَالتَّارِيخِيَّ، كَانَ فَرِيدًا مِنْ نَوْعِهِ، فَقَدْ كَانَ مَقْصِدَ الْمثَقَّفِينَ وَالْمهْتَمِّينَ بِمَرَاصِدِ الثَّقَافَةِ وَالْأَدَبِ، بَلْ كَانَ بَاعِثَ أنْسِهِمْ وَموَلِدَ إِبْدَاعِهِمْ، فَأَضَفَ الْمَكَانُ روحَ الشَّاعِرِيَّةِ الْعَذْبَةِ، وَالْقِيمَةَ الْمَعْرِفِيَّةَ وَالثَّقَافِيَّةَ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ، فِي بَعْثِ الْحَرَاكِ الثَّقَافِيِّ مِنْ خِلَالِ مَضْرِبِ النَّدَوَاتِ وَالْمحَاضَرَاتِ وَالْأمْسِيَاتِ الَّتِي عَزَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

الإسلام أقر الحسن في عادات قريش

لِهَذَا عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ لِلْأَمْرِ مِنْ وجْهَتِهِ الْإِيجَابِيَّةِ، فَنَضَعَ الْيَدَ عَلَى الْجرْحِ، يبَيِّنُ الْوَاجِبَ الَّذِي يَنْضَبِطُ بِهِ الْجمْهُورُ فِي الِاحْتِفَالِ بِالْمَوْرُوثِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالَّذِي عَادَةً يَرْتَبِطُ بِعَادَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِيهَا الْحَسَنُ، وَفِيهَا الْغَثُّ، وَالشَّرْعُ الْحَكِيمُ بَيِّنٌ فَاصِلٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَالْمَسَائِلُ الْعَادَاتُ تقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَابْتِهَاجُ الْفَلَّاحِ بِمَوْسِمِ الْخَيْرِ، أَوْ إِحْيَاءُ التراث لِلْأَجْيَالِ مِنْ خِلَالِ مَعَارِضِ الْفنُونِ، كَإِظْهَارِ فنُونِ الطَّبْخِ وَ اللِّبَاسِ وَأَدَوَاتِ الْأَثَرِيَّةِ لِلْأَجْدَادِ، لَا أَحْسَبُ الشَّرْعَ يضَيِّقُ فِيهَا أَوْ يحَرِّمُهَا، كَالْمَدِيحِ وَ الْغِنَاءِ الشَّعْبِيِّ الْمَوْزُونَةِ بِالْفَضَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، أَمَّا أَنْ يحِيَّ عَادَاتِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَرْوَاحِ فَهِيَ محَرَّمَةٌ وَجَبَ تَغْيِيرُهَا وَبَيَانُ مَفَاسِدِهَا وَمَنْعُهَا.

وَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَقَرَّ الْحَسَنَ فِي عَادَاتِ قرَيْشٍ، فَأَقَرَّ لَعِبَ الْأَحْبَاشِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَقَرَّ التَّسَابُقَ، كَمَا أَقَرَّ لِبَنَاتِ النَّجَّارِ الْمَدِيحَ، وَأَقَرَّ لِلصَّبَايَا الِابْتِهَاجَ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

فَعَلَى الدّعَاةِ وَالْأَئِمَّةِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا ارْتَبَطَ بِالْمعْتَقَدَاتِ، وَمَا اتَّصَلَ بِالْعَادَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَارْتَبَطَ بِالْمَأْلُوفِ الْمبَاحِ.

حشاني زغيدي

مدير مدرسة متقاعد، مهتم بالشأن التربوي والدعوي، الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights