حمدي شفيق يكتب: الوحيد الفريد أبو ذر الغفاري (1)
ذُهل كُفار مكة حين سمعوا رجلًا غريبًا يصيح بأعلى صوته داخل البيت الحرام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله».. لم يكن أحد قد تجرأ على فعلها قبله، إذ كانت الدعوة الوليدة ما زالت في المهد في ذلك الوقت، وكان هو رابع أو خامس من أسلم من الرجال.. وخشي أكابر المجرمين أن يتسبّب هذا الصائح في إسقاط هيبتهم، وتشجيع الضعفاء في مكة وخارجها على اعتناق الدين الجديد، فتكاثروا عليه، وانهالوا عليه ضربًا بكل غِلِ ووحشية، حتى كاد أن يموت، لولا أن جاء العباس بن عبد المطلب، فألقى بجسده عليه، ليحميه منهم، وصاح بهم، مُحذّرًا من قتله، لأنه رجل من قبيلة غفار، وطريق تجارة قريش يمر بها، فلو أصابه مكروه، لن تفلت لهم قافلة من أيدي الغفاريين.. وتبيّن للمشركين صواب رأى العباس، فتراجعوا عما كانوا يفعلون.. كان هذا البطل الشجاع هو أبو ذرّ الغفاري، جندب بن جنادة، رضي الله عنه.. وكان قد جاء سِرًّا إلى مكة، بعد أن أخبره أخوه ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فرغب في لقائه ومعرفة هذا الدين الذي جاء به.. وكان أبو ذَر قد اهتدى بفطرته، إلى أنه لا إله إلا الله، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر، فقضى سنوات طوال -قبل الإسلام- يتعبّد وحده لله الخالق، ويدعوه أن يُريه كيف يُصلى له على النحو الصحيح.. وبعد نحو أسبوعين في مكة، التقى بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأدرك على الفور أنه جاء بالحق المُبين، فشهد أنه «لا إله إلا الله، محمد رسول الله».
وأوصاه الحبيب بأن يكتم إيمانه عن قريش؛ حتى لا يُصيبه أذى، وهو بينهم غريب وحيد-إلى أن يصل إلى قومه «غفار» ويدعوهم إلى الإسلام، ويبقى معهم، ويصبر عليهم، إلى أن يستتب الأمر في دار الهجرة، فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. ولكن رجلًا من هذا الطراز النادر الرفيع لا ينصرف هكذا، فقال للحبيب: «والذي بعثك بالحق لأجهرن بها بين ظهرانيهم» وبالفعل صاح مُردّدًا الشهادة جهارًا نهارًا في البيت الحرام، فكادوا يقتلونه، لولا أن أنقذه العباس، رضي الله عنه.. ولم يكتف بمرّة واحدة، ففعلها ثانية في صباح اليوم التالي، وضُربوه ثانية، حتى أنقذه العباس مُجدّدًا، وحينها قَرّت عينه بالوفاء بقسمه -للنبي صلى الله عليه وسلم- وشُفِى صدره بالجهر بكلمة الحق والتوحيد، رغم أنوف الطواغيت، فانصرف إلى ديار قبيلته غفار.. وأثمر إخلاصه وصبره، فأسلم أكثر قومه بسببه، وجاء بالقبيلة إلى المدينة، بعد الهجرة الشريفة، فأسلم الباقون في الحضرة الكريمة،وأسلمت معهم جارتهم قبيلة «أسلم» بكاملها أيضًا، وبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، جميعًا، فقال ﷺ: («غفار» غفر الله لها ، و«أسلم» سالمها الله)..
رواه الشيخان البخاري و مسلم.