خاتمة حول مقالات «إعجاز التشريعات الإسلامية في بناء المجتمع المثالي»
كُتِبت هذه المقالات إسهاما في بيان روح الفقه الإسلامي، تلك الروح الربانية التي متى استلهمها المجتمع المسلم وخضع لمقتضاها سعد ونهض وتحققت مصالحه في الدنيا، ونجاة أفراده في الآخرة.
وهي كلمات في بيان شيء من أسرار التشريع وغاياته وإظهار مقاصده الشريفة، في وقت أثرت فيه الأفكار الوافدة في ثقة المسلمين بشريعتهم، وهذا خطر كبير يتطلب عملا ضخما لتستعيد الأمة ثقتها بشريعة ربها، وتخطو خطوات فيما يمكن أن نسميه “فقه الفقه”، ذلك لأن الفقه علم فيه شيء من الجفاف، هذا الجفاف يزول ببيان أسراره وإظهار حِكَمه ومقاصده، وطريقة عمله في الحياة والآثار التي تغياها الشارع من وراء تشريعه.
والمتأمل في الجانب الفقهي في الإسلام بكافة موضوعاته يلمس معالجات ربانية لكل مجال في حياة الإنسان الخاصة وكل جانب من جوانب الحياة العامة، فهي ليست معالجات آنية تنتهي صلاحيتها مع مرور الزمن، وليست معالجات تتوجه لصالح فئة على حساب أخرى، وإنما هي تشريعات إله عالم حكيم قال عن نفسه سبحانه {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض أنه كان غفورا رحيما}
(الفرقان: آية 6).
فهو سبحانه يعلم السر والجهر، يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل، وهو جل شأنه لا يحابي جماعة ولا شعبا ولا فئة، لأنه خالق الجميع و رب الجميع وملك الكل، فتشريعاته عامة شاملة تامة كاملة، دائمة خالدة، ضابطة هادية.
وقد تعرضتْ المقالات العشر لعدة معانٍ منها بيان بعض آفاق التيسير الإسلامي في العقود المالية ذلكم التيسير الرباني الذي يحقق من بين ما يحقق جانب الألفة والأخوة بين المسلمين، وبخاصة في العقود التي تقوم على المشاحة كعقود المعاوضات حيث أحاطها الإسلام بجملة قيود وشروط من شأنها منع الخلاف والنزاع، وكبح جماح النفوس المحبة للمال، ومنح الثقة والطمأنينة بين المتعاقدين، وفي المقابل نجد التشريعات الإسلامية خففت من الشروط في عقود التبرعات التي تقوم على المسامحة والتبرع وذلك تحقيقا لمعاني التكافل والتراحم ليُظلل المجتمع بمظلة اليسر ويحاط بسياج الأخوة والمرحمة.
وأشارت المقالات إلى حكمة تشريع الإسلام للصلح، وتخصيصه بابا للصلح بين الأفراد وبين الزوجين وبين الدول وبين سائر المختلفين، وجعله وسيلة هادئة تسبق عمليه التقاضي الصارمة لقطع المنازعات على كافة المستويات بدءا بمستوى الأفراد وحتى مستوى الجماعات والدول، لأن الخلافات تكون غالبا سببا في تقطيع الأواصر وهدم البنيان الاجتماعي، فجاء النص الشريف «والصلح خير»، نعم هو خير من كل وجه، ولا يكون خيرا إلا إذا انضبط المصطلحون بهذا الصلح بضابط الشرع فلا يحلون به حراما ولا يحرمون به حلالا، والمجتمع المتصالح يتجه فكره إلى البناء وترميم الفجوات، بينما المجتمع المتنازع يكون سعيه هدما، وحركته تخريبا، وهذا يضاد مقصد الاستعمار المطلوب شرعا من المكلفين.
وفي خضم التشريعات المالية يعلي الإسلام جانب الإنسان ويعني به عناية فائقة حتى لا تكون الأموال أغلى من الإنسان، ولا أكرم منه وقد رأينا في بعض المقالات كيف أبعد الإسلام المسلم عن مواطن المنة ليحفظ عليه عزته، وكيف شرع في المقابل أحكاما تقمع شراهة نفسه، وتحد من طمعها وتهذب تطلعاته حتى لا يطغى، لتبقى نفسية المسلم سوية مهذبة.
ووفي هذا كله ربط الإسلام كافة الأحكام والتشريعات بركيزتين هما الأساس في كافة التعاملات المالية هما:
– ركيزة العقيدة بكل أركانها ومعانيها وتأثيراتها.
– وركيزة الأخلاق بكل تجلياتها ومجالتها.
فليست التشريعات التي نسميها اليوم بـ«الفقه» ليست بمعزل عن تلك الركائز المهمة التي تبعث في النفوس السماحة واللين، وتجعل تلك الأخلاق في المعاملات المالية باب رحمة الله ورضاه فقد ورد في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى».
ثم أخذتنا المقالات إلى عظمة الإسلام في حماية الضعفاء في المجتمع الإسلامي كالمرأة واليتامى واللقطاء والفقراء وغيرهم حتى لا تطحنهم مطامع الطامعين، ولا جشع الجشعين، فشرعت أحكام تفصيلية تخص أموالهم وتحفظ وجودهم.
ورد في النسائي حديث حسن يقول فيه صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أُحَرِّج حق الضعيفين، اليتيم والمرأة».
ومن المقالات رأينا كيف كانت رحمة الفقه الإسلامي بالزوجين في تشريعين مهمين هما: الطلاق والخلع ليكونا حلا إنسانيا راقيا عند الرغبة في الفراق من أحد الطرفين، فالزوج له الطلاق، وللزوجة الحق في إنهاء الحياة الزوجية إن خافت ألا تقيم حدود الله فلها حينئذ أن تسلك طريق الطلاق بعوض بأن تفتدي نفسها فيما يعرف في الفقه بالخلع، وهذه والله عين الرحمة والرأفة.
ولابد من حماية لهذه التشريعات الإسلامية التي أشرنا إلى طرف يسير جدا من حكمها ومقاصدها ودورها وأثرها في بناء المجتمع المثالي الصالح، وقد أقام الإسلام لحمايتها سلطات أربع:
الأولى: سلطة الإيمان في النفوس الذي يضفي رقابة عالية لرب هذه التشريعات ومشرعها فيسير العبد مستشعرا رقابة خالقه، مستحضرا الجزاء والحساب على كل تصرف.
الثانية: سلطة الفقهاء التي من شانها دوام الدعم بالتعليم والشرح والبيان، فهي سلطة من واجبها أن توضح، وتتقن تنزيل الأحكام على واقع المكلفين بصورة تراعي العزائم في محلها والرخص في محلها دون تشديد أو تفريط.
الثالثة: سلطة الحكم العليا فسلطة الحكم وظيفتها حراسة الدين وسياسة الدنيا، فتفصل في القضاء بين الناس بحكم الله، وتلزم بأحكام الله من أراد الخروج على تلك الأحكام، وقد قال عثمان رضي الله عنه «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
الرابعة: سلطة الرأي العام الإيجابي، وهي سلطة الشعب والتي من شانها أن تحقق ضبطا اجتماعيا عاما وعينا داخلية حارسة لتصرفات الناس وذلك بالقيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن التأمل في أسرار الفقه وحكمه ومقاصده بحر لا ساحل له، فلا ينبغي أن ينظر الفقه على أنه أحكام قانونية جافة، ولا ينبغي أن نعرضه عرضا جافا خليا من معانيه وأهدافه وغاياته، بل ينبغي أن نظهر علاقته بالإيمان، وصلته بالأخلاق، وأن نبين علاقته بتهذيب النفوس، وعمران الكون، وضبط الحياة، وتحقيق المصالح، وحفظ النفوس والأعراض والأموال.
ولا تزال الساحة الفقهية على مستوى التصنيف والعرض والبيان بحاجة إلى الانفتاح على هذه الأبعاد غير الفقهية ليتم عرض الفقه وفهمه بالصورة الشاملة البناءة.
هذا والله أعلى وأعلم وأعز وأحكم وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير.