بحوث ودراسات

د. أحمد زايد يكتب: إعجاز التشريعات الإسلامية في بناء المجتمع المثالي (5-10)

حماية اللقطاء والمنبوذين

عندما نوسع نظرتنا إلى الإسلام فنتجول في أبوابه الفقهية والتشريعية، وتمتد أبصارنا إلى أوسع من أبواب الطهارة والعبادات -على عظم شأنها وجلال مقامها- فندخل إلى سائر أبواب الفقه تكتمل في أذهاننا الصورة الكلية للشريعة، وندرك فلسفتها في إقامة المجتمع المثالي الرباني، ومن هذه الأبواب المعروفة لدى الفقهاء باب «اللقيط».

حماية الضعفة في الشريعة الإسلامية:

جاءت نصوص الشريعة قاطعة في وجوب رعاية الضعفاء سواء كان ضعفهم من جهة فقدان العائل كاليتامى والأرامل، أو من جهة فقدان الصحة كالمرضى والمصابين، أو بسبب فقدان جهة النسب وجهالة المصدر كاللقطاء والمنبوذين، أو كان ذلك بسبب الظلم السياسي والتسلط العسكري، وهذه جملة من النصوص الشرعية:

قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}.

في الحديث: «خير بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يساء إليه» (رواه ابن ماجه).

وعن أبي هريرة، عن النبي قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله»، وأحسبه قال: “وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر”، (متفق عليه).

وقال سبحانه: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ?ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}.

وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي توجب رعاية الضعفاء أيا كان سبب ضعفهم، ومن هؤلاء الضعفاء فئة (اللقطاء) فقد جاءت نصوص الحديث في القرآن والسنة وكلام الفقهاء مبينة أحكام “اللقيط”.

وفي هذا المقال والذي يليه بيان فلسفة الإسلام ومقصده من حماية ورعاية هذه الفئة.

واللقيط أعم من أن يكون “ابن زنا” فقد يكون اللقيط منبوذا من أبوين لا يريدان النفقة عليه لفقر وعجز، أو يكون قد جاء من فاحشة الزنا، فخشيت أمه العار فألقت به هنا أو هناك، لذا عرفه صاحب الفتاوى الهندية بأنه: “اسم لحي مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الزنا، مضيعه آثم ومحرزه غانم”.

وفي العصر الحديث ومع الانفتاح الإعلامي الذي يحث على نشر الرذيلة ويشجع على العلاقات الآثمة غير المشروعة، كثر هذا النوع من الأطفال غير الشرعيين، وأضيف إلى ذلك سبب آخر وهو كثرة الحروب والصراعات، وربما عمليات اغتصاب يقوم بها الكفار عند قتال المسلمين كما وقع في حرب الصليبيين الصرب لمسلمي كوسوفا والبوسنة، والتي خلفت آلاف الأطفال نتيجة اغتصاب المسلمات، وأيا ما كان الأمر فإن اللقيط في الإسلام نفس محترمة جاءت الشريعة بجملة من الأحكام المتعلقة به حماية ورعاية وتربية وتهذيبا، حتى لا توجد فئة مهملة أو مهمشة داخل مجتمع مسلم يعرف للإنسانية قدرها واحترامها.

اللقيط عمار أو دمار:

إذا نبذ طفل دون البلوغ ثم كبر فوجد الناس من حوله يعيشون في أحضان أسرة اجتماعية تربيه وتحميه وترعاه، ثم لا يجد مثل تلك البيئة الحاضنة بالنسبة له فإن نفسه حينئذ لن تكون سوية، ولن تكون مشاعره تجاه المجتمع الذي نبذه مشاعر سلام أو احترام، وسيكون مصدر رفض وقلق وانتقام في هذا المجتمع، لإحساسه بالقسوة والرفض ممن حوله، أما لو كبر في وسط بيئة تشعره بالأخوة والحنان، وتبذل في سبيل تربيته ورعايته وتهذيبه ما يستحقه، فإنه سيشعر بمعاني التقدير والوفاء لمن حوله، لهذا حث الإسلام على رعاية هذه الطبقة لأمرين:

*حماية النفس البشرية وبخاصة تلك النفس الضعيفة اجتماعيا حيث لا والد ولا والدة، ولا أعمام ولا عمات، ولا خال ولا خالات ولا ذوو رحم.

*حماية المجتمع المسلم من وجود عناصر لا تعرف الانتماء، ولا تعرف قيمة المجتمع.

المجتمع الإسلامي يحمي اللقطاء:

عرف في تاريخ حضارتنا الإسلامية ما سمي بـ (وقف الدور): وهو الوقف الخاص بإيواء اليتامى واللقطاء ورعايتهم، ولرعاية المقعدين والعميان والشيوخ، ووقف الدور هو أشهر أوقاف الصحابة (انظر الأوقاف النبوية ووقفيات بعض الصحابة الكرام). (167). وكانت تلك الأوقاف حماية لهؤلاء من الضياع وقياما بفرض الكفاية عن الأمة.

وامتدادا لذلك عرف في واقع المسلمين اليوم ما يسمى دور الأيتام، وهي تلك الدور المخصصة لرعاية الأيتام واللقطاء، ويحمد لها دورها الرعوي الذي تقوم به حيث تحمي هؤلاء من عدة مخاطر محققة منها:

1- المخاطر التي تهدد وجودهم إذا تركوا بلا رعاية، فهي تؤويهم وتحميهم من الحر والبرد والحوادث وغير ذلك مما يهدد حياتهم، ولو تركوا في الطرقات والشوارع لكانوا عرضة للهلاك والضياع.

2- كما تحميهم من الجهل، وذلك بالتعليم والتثقيف، وهذا لا شك مؤثر في طريقة تفكيرهم ومنهج حياتهم، فليس من نال قسطا من العلم كقرينه الذي لم يحصل على شيء من ذلك.

3- وتحميهم من المرض والفناء حيث الرعاية الصحية والعناية الطبية التي تحفظ عليهم صحتهم وتدفع عنهم الأوبئة والأمراض.

4- كما أنها تحمي هؤلاء من خطرين عظيمين؛ الأول: الانحراف الأخلاقي فتحميهم بالتربية والتهذيب، والثاني: خطر التنصير والتكفير حيث إن جمعيات التنصير تولي هذا الصنف عناية كبيرة وتوجه إليهم أموالا طائلة وتقوم باستغلال ضعفهم بالتنصير.

5- كذلك حمايتهم من عصابات الاتجار في البشر واستغلال ضعفهم بتشغيلهم فيما يعرف بعمالة الأطفال.

وقد رأينا هذه الطبقة لما أهملت ولم تجد لها راعيا كيف استُغلِت من قبل الأنظمة المستبدة فكونت منها جيوشا لها مما عرف في عرف الناس بـ(البلطجية – أو الشبيحة – أو الزعران) بعد أن استغلت فقرهم المادي والنفسي والروحي والعقلي.

وللحديث بقية إن شاء الله.

د. أحمد زايد

أستاذ مشارك في كلِّيتي الشريعة بقطر، وأصول الدين بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى