د. أسامة جادو يكتب: إطالةُ زمن المحنة.. بين الاستدراك والاستدراج
مضت سنةُ الله تعالى أن يبتلىَ عباده على قدر إيمانهم، وتتجلى رحماته ولطفه بهم بالتخفيف تارة والترطيب تارة أُخرى،
فتكون الابتلاءاتُ رافعةً للمؤمنين في درجات العُلا في الدنيا والآخرة، تُمهدُ لهم طريق الفوز العظيم {وبشر الصابرين (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} (سورة البقرة)
روى الإمامان الحاكمُ والبيهقي (رضى الله عنهما) عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
[إنَّ الرجلَ ليكونُ له عندَ اللهِ المنزلةُ، فما يبلغُها بعملٍ، فما يزالُ يبتلِيه بما يكرهُ حتى يبلغَه إيَّاها] والحديثُ حَسَنٌ صحيحٌ، ويعضده ما رواه اللَّجْلَاجُ بْنُ حَكِيمٍ السُّلَمِيُّ رضى الله عنه عن النَّبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
[«إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللهِ مَنْزِلَةٌ – لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ – ابْتَلَاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبَلِّغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»] أخرجه أبو داود
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله:” الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليه”
وكذلك تكونُ المحنُ موقظــةً لهم ولغيرهم، فمن مقاصد البلاء الذي ينزلُ بالخلق أن يحمل لهم انذاراً وتحذيراً ولفت انتباه لغاية تصحيح المسار أو تعديله، رحم الله عبداً تيقظ قبل فوات الأوان وحلول الحُسام، فتاب وصَلُحَ حاله وأناب
و كذلك يكونُ البلاء كاشفاً عن خفايا الصدور التي لا يعلمُها إلا الله تعالى، فيظهر للناس ما خُفى عنهم وغاب، فيرتفع شأنُ أناسٍ، مغمورين أو مشهورين، ثبتوا وصدقوا مع الله تعالى، وينسحق آخرون ويتساقطون، وتهوي بهم المحنةُ إلى قاعٍ سحيقٍ {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (سورة الحج : الآية 31).
إنَّها محطات اختبار وابتلاء يمرُّ بها النَّاسُ، فمنهم الفائزون ومنهم الخاسرون.
طالت محنة أمتنا الإسلامية واشتدت، وفي القلب منها فلسطين والأقصى وغزة الأبية، والمُقام ليس يُجدي معه طول الكلام، فهذا أوان العمل، لكنَّي أردتُ تذكيرَ نفسي وأحبتي
إنَّ إطالةَ مدةِ المحنة مدعاةُ لنا أن نستدرك ما فاتنا من شرف المشاركة والبذل الواجب شرعاً، لا يزال عندنا متسعٌ لعمل وعطاء يلحقُ بنا بركب الصالحين الصادقين الثابتين، إنَّها دعوةٌ لكل صادقٍ، مسلم ومسلمة، أن يرفع راية الاستدراك والتعويض وقضاء ما فات من واجبات شرعية (نصرة المظلوم واجبةٌ – إغاثة الملهوف الذي يُوشكُ أن يُسفكَ دمه ويموت صبراً واجبةٌ كذلك – تحرير الإنسان والأوطان والمقدسات واجبٌ).
وقد ظهر البيانُ وانتشر توضيحُ ما يجبُ فعله من أعمال لتحقيق واجبات النصرة، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والشعوب، ولا أكرر ما سبق بيانه، لأنَّ المقام تذكيرٌ ودعوة للاستدراك وتصحيح المسار.
طال زمنُ المحنة وزادت تكلفتُها وعَظُمَت مشاقُها وآلامُها، ولكنَّ الله تعالى يستدرجُ الظالمين إلى مواطن حتفهم ومضاجع مصرعهم ومهاوي زوالهم، لا ننسى ولن ننسى قول الله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} سورة القلم، وفي سورة الأعراف:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [سورة الأعراف الآيتان :182، 183]، فالله تعالى يُملي للظالمين ويمكرُ بهم من حيث لا يشعرون، قال الإمامُ ابن كثير في تفسير الآية: أي: وأؤخرهم، وأنظرهم، وأمدهم، وذلك من كيدي ومكري بهم ; ولهذا قال تعالى: (إنَّ كيدي متين) أي: عظيم لمن خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الله تعالى ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته». ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) [سورة هود: 102].
وختامُ اللقاء نعطرُ مسامعنا بقول الله تعالى:
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍۢ مِّنْ عِندِهِۦٓ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [سورة التوبة الآية 52]
نحن مُقبلون على أيامٍ عظيمةٍ، يجتمعُ فيها بوارق الجهاد والصبر والمصابرة، والثبات والتضحية مع أنوار وفيوضات العشر من ذي الحجة وختامها فريضةُ الحج وعيد الأضحى المبارك، وقريباً بإذن الله تعالى ترتفع رايات النصر والفتح المُبين، فأروا الله من أنفسكم طاعةً وخيراً وبذلاً و عوناً لإخوانكم و نصرةً لهم.
اللهمَّ نصرَك الذي وعدتَ به عبادك المؤمنين،
اللهمَّ خُذْ بأيدينا إليك أخذَ الكِرام عليك
ودُلَّنا بك عليك، يا خير مسؤول.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد معلم النَّاس الخير