مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: شهر رمضان والغايات العليا للإنسان

خلق الله الإنسان وأعدَّه إعدادًا خاصًّا -دون سائر مخلوقاته- يؤهله لتحقيق الغايات العليا التي خُلق من أجلها، وهي العبادة، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أرِيدُ أَن يطْعِمُونِ} [الذاريات:56-57].

ولإكمال المهمة التي أُهبط لها في الأرض، وهي الخلافة وتعمير الأرض، كما جاء في قوله تعالى:

{.. وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129].

وفي قوله تعالى: {.. هوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61].

بيد أنَّ الإنسان في ظل الحضارة المادية الجارفة، يشعر على نحو غير مسبوق بأنه من غير غايات عليا ولا أهداف كبرى؛ فلقد انطبع بطابع هذه الحضارة، وانصبغ بصبغتها -إلا من رحم الله- وأصبح أسير مصلحته وأنانيته، وسجين جشعه وطمعه، يأكل -كالنار- الأخضر واليابس، ولا يلوي على شيء،

فقد اتسعت معدته على حساب ضميره وعقله، وإحساسه وإنسانيته..، فصار لا يكفيه شيء مهما عظم، وأصبح أشدَّ ضراوة من الحيوانات المفترسة،

وما قصة الحروب المشتعلة، والطمع والجشع، والعلو والاستكبار في الأرض بغير الحق عن الواقع النكد للبشرية ببعيد!!

وما أدقَّ تصوير أحد المفكرين للإنسان -في ظل هذه الحضارة المادية الطاغية- إذا استرسل في لذته وشهواته،

ورتع فيها رتع البهائم السائمة، فيصبح وهو في أوج مدنيته وحضارته، وقمة علمه وثقافته، كحمار الطاحون أو كثور الحرث،

يدور بين المطعم والمرحاض، ومائدة الطعام والبالوعة، لا يعرف غير الطواف بينهما شغلاً وجهادًا!

 أهمية شهر الصيام

من هنا تأتي أهمية شهر الصيام، الذي يردُّ الإنسان إلى حقيقته، وإلى سرِّ وجوده، وغاياته العليا التي خلق من أجلها، بعد أن تتغلب فيه أشواق الروح على نوازع الجسد؛

فيتحرر من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويدرك أهدافه الكبرى، وأنه لا يليق به أن يكون همه بطنه وشهوته، شأنه شأن الأنعام،

وشأن الكافر الذي وصفه الله في قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12].

نعم، لقد سما الإسلام عامة، والصيام خاصة بقيمة الإنسان، وجعل غايته أكبر من مجرد إشباع الشهوة، وهدفه أبعد من هذه الحياة الدنيا وما فيها!

روت أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله ﷺ أتاها – في غير صيام الفريضة – فقال: «هل عندَكُم طعامٌ؟»

فقلتُ: لا! فقالَ: «إنِّي صائمٌ». ثمَّ جاءَ يومًا آخرَ، فقالت عائشةُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا قد أهْديَ لَنا حَيسٌ، فدعا بِهِ،

فقالَ: «أما إنِّي قد أصبحتُ صائمًا». فأَكَلَ. [مسلم:1154].

هكذا كان النبيُّ الأسوة الحسنة ﷺ إذا غابت الدنيا استعلى عليها، «هل عندَكُم طعامٌ؟» فقلتُ: لا! فقالَ: «إنِّي صائمٌ»!

إنَّ الأمم لا تنهض ولا تعز، إلا بالإنسان الرسالي، الذي قد انتصر على نفسه، واستعلى على أنانيته،

ومن ثمَّ فهو يعمل لصالح أمته، ويسهر على راحتها، يضيء لها الطريق، لتسعد ويسعد غيرها!

د. إبراهيم التركاوي

02 مارس 2025م

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights