مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: ليس غير الله يبقى (1)

«ليس غير الله يبقى»، سبحانه فهو الحي الذي لا يموت، وكل ما سواه يفنى ويموت، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27]. فالله وحده هو المتفرد بالبقاء، و{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [غافر:68].

وإذا كانت هذه هي الحقيقة التي يُمسي ويُصبح الوجود كله عليها، فلا ينبغي للقلوب أن تتوجه إلا إلى الله، ولا تتعلق بمَن يموت من المخلوقين، فإنهم أعجز من أن يملكوا لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًا ولا نفعًا، ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا، وبهذه الحقيقة نطقت آيات الذكر الحكيم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ..} [الفرقان:58].

يقول (ابن كثير) في تفسير هذه الآية: (أي في أمورك كلها كن متوكلًا علي الله الحي الذي لا يموت أبدًا، الذي هو {الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. الدائمُ الباقي السرمديُّ الأبديُّ، الحيُّ القيوم، ربُّ كل شيء ومليكه، اجعله ذخرك وملجأك، وهو الذي يُتوكل عليه ويُفزع إليه، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك).

ولله درُّ مَن قال:

اجعل لربك كلَّ عِزِّك يستقر ويثبتُ ** فإذا اعتززت بمن يموت فإنَّ عِزَّك ميتُ!

«ليس غير الله يبقى»، فكل مذكور- مهما ذاع صيته – سيُنسى، وكل مستكبر – مهما علا – سيسقط، وكل نجم – مهما سطع – سيأفل.. تلك هي الحقيقة التي وَجَّه الخليلُ إبراهيم عليه السلام قومَه الذين كانوا يعبدون الأصنام إليها؛ عن طريق التأمل والاستدلال، مبينًا لهم بطريق عملي أنَّ الإله الحق لا بد أن يكون باقيًا قادرًا قائمًا علي أمر الخَلق والعباد، كما جاء في القرآن الكريم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76-79].

«ليس غير الله يبقى» تُجدِّد الإيمان في القلوب، وتبعث الأمل – المُحرِّك للسعي والعمل – في النفوس.. فلا غَرو بصاحب الأمل إذا استقبل صبيحة يومه بهذا الذكر النبوي الندي: «أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير..»، وهو ينظر في الكون ويـتأمل طلاقة القدرة لمَن {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وهو يغفر ذنبًا، ويُفرِّج كربًا، ويكشف غمًا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفك عانيًا، ويُغني فقيرًا، ويُعزُّ ذليلًا، ويُذلُّ عزيزًا، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين..

فلا يسعه -وهو مُقبل على الحياة بكل أمل وقوة- إلا أن يحمد اللهَ المَلِكَ الحقيقيَّ المتصرِّفَ في الممالِك كلها وحده، تَصرُّفَ مَلِكٍ قادرٍ -لا يمتنع عليه شيء، وهو قاهر لكل شيء، وقد خضع له كل شيء- عادل رحيم، سبحانه وتعالى! {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}

 [المؤمنون:116].

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث وكاتب في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights