د. إبراهيم التركاوي يكتب: ليس غير الله يبقى (3)

تلك هي الحقيقة الباقية؛ فلا شيء مما ترى تبقى بشاشتُه ** يبقى الإله ويفنى المال والولد!
فما المالُ والأهلون، ولا كل ما نرتبط به من وشائج الحياة إلا عواري مُسترَدة، إنْ بقيت فلا نبقى لها، وإنْ بقينا فلا تبقى لنا، ولا غرو..
فهذي سنة الدنيا دوامًا ** فراق بعد جمع واكتمالِ!
وفي الحديث: عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله ﷺ، فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجزيُّ به، واعلم أنَّ شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس». [رواه الطبراني في الأوسط، بإسناد حسن، وصححه الألباني].
فكل الصِّلات قد تنقطع إلا صلتك برب العالمين.. يُصوِّر لنا الشيخ علي الطنطاوي هذه الحقيقة التي ينطق بها الواقع في دنيا الناس، فيقول: (عشتُ في بداية عمري مع والدايّ، وكنت أظن أنني لا أستطيع مفارقتهم، ولا العيش دونهم، فتُوفي والدايّ، فعشت مع إخوتي، وظننت أنني لا أستطيع مفارقتهم، فتزوجوا وعاش كل منهم مع أسرته، وأنا كذلك تزوجت وأنجبت البنات والأبناء، وظننت أنني لا أستطيع مفارقتهم، فتزوجوا وكل منهم كوَّن أسرة وذهب إلى سبيله، فعلمت أنه لا يبقى مع الإنسان إلا ربه..).
فإذا حان الأجل، جاء الموت؛ ليأخذَ الإنسانَ مِن بين كل ما يحيط به مِن نعيم ورفاهية، ومِن أهلٍ ومالٍ وشهرةٍ وسُمعةٍ وجاهٍ وسلطان، ويأتي الإنسانُ ربَّه فردًا مُجرَّدًا من كل شيء إلا ما قدمت يداه، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
وعند الحساب، فإنه {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، ولا يجزي أخٌ عن أخيه شيئًا، بل {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37].
إنه اليوم الذي {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:11-14].
وإذا كان الإنسان يفرُّ مِمَّن هم أولى الناس به فأين المفرّ؟! إِلَى {رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:12].
إن المستقر هو إلى الله وعنده – سبحانه- فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، فلا إله غيره ولا رب سواه، وليس للخلق مُعاذٌ سواه..
فليس غير الله يبقى للإنسان في الدنيا والآخرة! وكيف لا؟! و(ناصية الإنسان بيد الله، ونفسه بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، وحياته بيده، وموته بيده، وسعادته بيده، وشقاوته بيده، وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله بإذنه ومشيئته، فلا يتحرك إلا بإذنه، ولا يفعل إلا بمشيئته، إنْ وكَله إلى نفسه وكَله إلى عجزٍ وضيعةٍ وتفريط..، وإنْ وكَله إلى غيره وكَله إلى مَن لا يملك له ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا..، فهو لا غنى له عنه طرفة عين، بل هو مضطر إليه على مدى الأنفاس في كل ذرة من ذراته باطنًا وظاهرًا..) [ابن القيم].
ولله درُّ مَن قال:
والله ما لَكَ غيرُ الله مِن أحدٍ ** فحسبُك الله في كلٍ لك الله!
فطوبى لِمَن فرَّ إلى الله -عزَّ وجلَّ- واتجه إليه بكليته، متحررًا من كل عائق، يحول بينه وبين تحقيق عبوديته المتجردة الخالصة لله عزَّ وجلَّ – في عمارة الأرض وبناء الحياة – استجابةً لقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات:50-51].