د. تيسير التميمي يكتب: معركة البابين
معركة البابين واحدة من معارك الحروب الصليبية ضد مصر أيام تعرّضها للحملة الصليبية الثالثة، ودارت رحاها على مدى ثلاثة أيام في 18-4-1167 في أواخر شهر جمادى الآخرة من عام 562هـ على أرض مصر الشقيقة في منطقة البابَيْن (وتقع جنوب الْمِنْيا بعشرة أميال عند أطلال هيرموبوليس القديمة)
وكانت بين جيش السلطان الشهيد نور الدين محمود زنكي بقيادة أسد الدين شيركوه وبمشاركة ابن أخيه وأحد كبار ضباطه صلاح الدين الأيوبي رحمهم الله،
وفي المقابل جيش من التحالف الصليبي الفاطمي الذي يقوده الملك عموري الأول ملك القدس المحتلة صليبياً،
أسفرت المعركة عن هزيمة تحالف الشر ذاك وانتصار ساحق لجيش المسلمين الزنكيّ.
الملك عموري الأول حليف استراتيجي للدولة الفاطمية
كان الملك عموري الأول حليفاً استراتيجياً وحامياً للدولة الفاطمية. أراد هذا الملك تدمير الجيش الزنكي الذي أرسله نور الدين من سوريا إلى مصر،
وكان هوسه الاستيلاء على مصر نظراً لأهميتها، فقد غزاها عدة مرات خلال فترة حكمه،
لكنه لم ينجح في أيٍّ منها لأنه كان يواجه في كل مرة مقاومة قوية من المسلمين وبالأخص من نور الدين زنكي وقادته وجنوده،
لذلك كان القتال في هذه المعركة سيصب في مصلحته لو أنه انتهى بانتصار الفرنجة،
قصة معركة البابين
وأما عن قصة هذه المعركة فقد كنتُ ذكرت في مقال سابق أن الوزير الفاطمي الخائن شاور تمكَّن من العودة إلى الوزارة والحكم بفضل الجيش الزنكي بقيادة شيركوه وصلاح الدين وغيرهما من القادة،
لكنه فور ذلك غدر بهم واستنجد عليهم بالصليبيين، فسارع الصليبيون في القدوم إليه،
وحتى هؤلاء لم يفِ لهم شاور بالوعد، فبعد أن اطمأن إلى مركزه لجأ إلى الحيلة معهم ليجليهم عن مصر،
فأرسل لملكهم كتاباً جاء فيه [قد عرفتَ محبتي ومودتي، ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد]
فعرض عليه الصلح وأخذ المال والرحيل عن مصر لئلا يتسلمها نور الدين فيما لو وصلها جيشه وواجه جيشهم،
فلما رأى الفرنج أن مصر امتنعت عليهم وافقوا على عرض شاور بعد التشاور
فقالوا فيما بينهم [نأخذ المال فنتقوَّى به ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين]
وشرطوا أن يعطيهم ألف ألف دينار مصرية (مليون دينار) يعجّل بعضها، فعجل لهم مائة ألف دينار ووعدهم بدقع الباقي بالتقسيط.
وفيما بعد كان بعض أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور ونكاية به،
فقد فرض على الناس دفع الأموال الطائلة ليسلمها للصليبيين، فقوي بذلك موقف الفرنج وأتوا مصر ثانية طمعاً باحتلالها وخوفاً من سيطرة نور الدين وشيركوه عليها
لأن ذلك سيهدد وجودهم في كل البلاد التي يحتلونها، وبدأوا بتجهيز جيوشهم بسرّيّةٍ،
وراسلوا ملك عسقلان الموصوف بالشجاعة والدهاء لمشاركتهم غزو مصر فلم يوافقهم،
فحاول الفرسان وذوو الرأي إقناعه فقال لهم [الرأي عندي أن لا نقصدها، فأموالها تُساق إلينا نتقوى بها على نور الدين،
فإن قصدناها فلن يسلمها أهلها لنا بل سيقاتلوننا دونها، وسيحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين،
ولئن أخذها نور الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام] فقالوا له
[إنها لا مانع فيها ولا حامي لها، وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين ويسير إليها نكون قد ملكناها وفرغنا من أمرها،
وحينئذ سيتمنى نور الدين منا السلامة] فسار معهم على كره منه،
إحراق مدينة مصر خوفاً من سيطرة الفرنج
وحتى لا يعلم نور الدين بحقيقة حملتهم هذه وأهدافها تظاهروا بأنهم يريدون التوجه إلى مدينة حمص، فساروا إلى مصر في جحافل هائلة،
فنزلوا مدينة بلبيس واحتلوها ونهبوها وقتلوا وأسروا كثيراً من أهلها، فلما رأوا أن لا أحد يردعهم أو يحاسبهم تمادوا طغوا وبغوا،
تضايق الوزير شاور من هذا الحال فأمر الناس بإحراق مدينة مصر خوفاً من سيطرة الفرنج عليها ونهب ما فيها،
وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة فاستجابوا لأمره، وإنه لأمر مستغرب أن شاور وهو المتولي للأمر كله كيف له أن يضيق ذرعاً بأفعال الفرنجة،
كيف وهم حلفاؤه يلجأ إليهم ضد بني جلدته ودينه كلما تزلزلت الأرض من تحت أقدامه وتزعزعت مكانته وتهدد منصبه ؟
بعد سيطرة الفرنجة على بلبيس ساروا إلى القاهرة وشددوا عليها الحصار وضيقوا على أهلها، لكنهم وجدوا مقاومة باسلة من المصريين الذين لم يستسلموا لعدوهم؛
بل قاتلوا دون مدينتهم وأرضهم وبذلوا جهدهم في حفظها، لكن الحال في مصر أصبح عصيباً جداً لا يطاق،
والناس في كرب عظيم وفي همٍّ وغمّ ومعاناة شديدة،
فأرسل العاضد الخليفة الفاطمي إلى نور الدين زنكي يستنصره ويعرِّفه بضعف المسلمين في مصر وما هم عليه من هوان وذلة وحالٍ بائس،
وبعث إليه في الكتاب بشعور النساء وقال له [أدركني واستنقذ نسائي، هذه شعور النساء من قصري يستغثْن بك لتنقذهن من أيدي الفرنج]
وما كان من نور الدين السلطان المجاهد للغزاة الصليبيين إلا أن استجاب لاستصراخ الخليفة تنفيذاً لأمر الله تعالى الذي قال
{… وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ…} الأنفال 72،
تجهيز الجيش الزنكي لإرساله إلى مصر
كان نور الدين في حلب لما وصله كتاب العاضد، فأرسل إلى أسد الدين شيركوه يستدعيه فلقيه على باب حلب قادماً من حمص،
فتوجها معاً إلى دمشق وشرعا بتجهيز الجيش لإرساله إلى مصر وجعل شيركوه على رأسه وأعطاه مائتَيْ ألف دينار،
هذا غير الثياب والدواب والعتاد والأسلحة وغيرها، واختار نور الدين من خيرة عسكره ألفَيْ فارس وأعطى كل فارس منهم عشرين ديناراً معونة غير محسوبة،
وأرسل مع شيركوه مجموعة من الأمراء والقادة والأعيان الذين يبتغون بجهادهم رضا الرحمن،
ومن هؤلاء الأمراء صلاح الدين الأيوبي وعز الدين جورديك وعز الدين قلج وشرف الدين بُزْغُش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال المنبجي رحمهم الله جميعاً.
تجهز أسد الدين وسار في شهر ربيع الآخر في جيش قوي وسار به إلى مصر، فلما وصلها عَبَرَ النيل إلى الجانب الغربي ونزل بالجيزة وأقام فيها نيفاً وخمسين يوماً،
وأما الفرنجة فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي من نهر النيل في الوقت الذي وصل فيه أسد الدين وعساكره قرية البابين في الصعيد،
وهنا أمر الملك الصليبي مجموعة من فرسانه بمطاردة شيركوه وجنوده،
وانضمت إلى المطاردة عساكر مصرية من الفاطميين. فطاردوه جميعاً عبر وادي النيل وعبروا النهر إلى الجيزة،
وكادت هذه المطاردة أن تنجح، لكن المسلمين تحولوا لمحاربتهم بعيداً عن الأراضي الزراعية وجذبوهم إلى الصحراء.
مراقبة تحرك الجيش الصليبي
أرسل شيركوه عناصر استخباراته لمراقبة تحرك جيش عدوه، فعادوا إليه وأخبروه بكثرة عَدَد الفرنجة وعُدَدِهم وجَدِّهم في ملاحقته،
فعزم على قتالهم وأن تحكم السيوف بينه وبينهم، إلا أنه خاف أن تضعف نفوس جنوده ومن معه عن الثبات في هذا المقام الخطير،
فعددهم قليل وبلدهم بعيد وطريقهم طويل، فقرر أن يستشيرهم فأشار جُلُّهم عليه بقطع النهر والعودة إلى الشام من حيث أتوْا،
وقالوا له [إن نحن انهزمنا وهو الذي يغلب على الظن فإلى أين نلتجئ؟ وبمن نحتمي؟
وكل من في هذه الديار من جندي وعامٍّيٍّ وفلاحٍ عدو لنا ويَوَدُّون لو شربوا دماءنا]
وهذا يعكس لنا مدى الحقد والعداوة والبغضاء التي زرعها الفاطميون في نفوس الناس تجاه المجاهدين الزِّنكيين
فقام الأمير شرف الدين بُزْغُش وهو من أمراء نور الدين وكان شجاعاً مقداماً
فقال لهم [من يخاف القتل والجراح والأسر فيكون فلاحاً أو مع النساء في بيته،
والله لئن عُدْتُم إلى الملك العادل من غير غَلبة وبلاء تُعذرون فيه ليأخذَنَّ إقطاعاتكم وليعودَنَّ عليكم بجميع ما أخذتموه إلى يومنا هذا ويقول لكم:
أتأخذون أموال المسلمين وتفرُّون عن عدوهم وتسلمَّون مثل هذه الديار المصرية يتصَّرف فيها الكُفَّار؟]
ومعنى إقطاعاتكم أي الأراضي التي خصصها لكم السلطان، فقال أسد الدين: هذا الرأي وبه أعمل، وقال ابن أخيه صلاح الدين مثله،
وكثر الموافقون لهم فاجتمعت كلمة الجميع على القتال في سبيل الله ومجاهدة الأعداء الغزاة،
وهذا يبين لنا هيبة ومكانة نور الدين في قلوب قادته وجنوده، وهكذا كل حاكمٍ في الأمة ينبغي أن يكون،
عقلية أسد الدين شيركوه وحنكته العسكرية
أقام شيركوه بمكانه حتى أدركه جيش التحالف وهو على تعبئة، وهنا برزت عقلية أسد الدين شيركوه وحنكته العسكرية،
فبنى خطته على أساس تكتيك الكماشة الذي هو من أخطر الخطط القتالية،
فقد أراد جذب الفرنجة بعيداً عن ساحة المعركة واستدراج سلاح الفرسان إلى هدف قيّم في نظرهم،
وحتى يوهمهم بأنه سيكون هو في قلب الجيش وضع معظم العُدَد والعتاد العسكري في القلب حيث لم يمكنه تركها في مكان آخر لئلاَّ تتعرض للنهب،
وجعل صلاح الدين في القلب وقال له [إن الفرنج والمصريين يظنون أنني في القلب، فهم يجعلون جَمْرتهم بإزائه وحملتهم عليه،
فإذا حملوا عليكم فلا تَصْدُقوهم القتال ولا تهلكوا نفوسكم واندفعوا بين أيديهم، فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم]
ومَعنى يجعلون جمرتهم بإزائه أي يجعلون اجتماعهم وهجمتهم باتّجاه القلب،
وَمعنَى الصدق في القتال أي الثبات فيه شجاعة وقوة، فهو يطلب من جنوده التظاهر بالقتال،
ومعْنى اندفعوا بين أيديهم أي تظاهروا بالفرار من أمامهم، واستكمالاً للخطة اختار شيركوه من شجعان عسكره جمعاً يثق بهم ويعرف صبرهم ووقف على رأسهم في ميمنة الجيش.
وهذا ما كان بالفعل في المعركة، فقد وقع عموري وجيشه في خطة شيركوه وكمينه بأن جعل هجومه الرئيسي باتجاه قلب الجيش معتقداً ان شيركوه فيه،
فقاتله جنود القلب قتالاً يسيراً ثم سارعوا بالفرار من أمامهم غير متفرِّقين، وتبعهم الفرنج،
فبذلك سحب صلاح الدين جيش عموري بعيداً عن ساحة المعركة.
وهنا هجم أسد الدين وميمنة جيشه على بقية جيش الفرنج ومن والاهم فرسانهم ومشاتهم فوضع السيف فيهم فأكثر القتل والأسر، فانهزم من بقي حياً وحراً منهم.
عاد عموري بجنوده منهزمين
وعندما عاد عموري بجنوده المنهزمين الذي هاجموا قلب جيش شيركوه من مطاردة صلاح الدين حشد قواته معاً وسار مباشرة عبر خطوط العدو وقاتل جنودهم على طول طريق العودة،
فلما وصلوا ساحة المعركة مجدداً رأوْا مكانها قَفْراً لا أحد فيها من جنودهم فانهزموا هم الآخرون أيضاً،
وانسحب عموري من المعركة مع جيشه المهزوم بعد مقتل عدد كبير من فرسانه،
فخسر فرصته بأن يصبح حاكماً لمصر كما خسر مثلها سابقاً ولاحقاً حتى نهاية حكمه.
كانت نتيجة هذه المعركة مما تعجَّب له بعض المؤرخين،
وموضع عجبهم كيف لألفي فارس أن يهزموا عساكر مصر وفرنج الساحل وهم أضعافهم، والحقيقة أن لا عجب في ذلك،
فقد شهدنا معارك كثيرة في التاريخ الإسلامي انتصرت فيها القلة القليلة المؤمنة على الكثرة الكثيرة الكافرة أو الظالمة،
فالعبرة ليست دوماً في القلة أو الكثرة بل في قوة الإيمان والصبر والثبات بعد إعداد والأخذ بالأسباب،
قال تعالى {… قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
البقرة 249.
ومعنى يظنون في الآية الكريمة أي يوقنون.