د. تيسير التميمي يكتب: معركة الفِراض
معركة الفِراض واحدة من معارك فتوح العراق في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقعت أحداثها في الخامس عشر من شهر ذي القعدة من العام الثاني عشر للهجرة،
ودارت رحاها على أرض الفراض وهي مدينة حدودية قرب نهر الفرات تجمع تخوم الشام والعراق وشمال الجزيرة،
وكانت بين جيش المسلمين بقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه في مواجهة تحالف الشرّ الذي ضم الفرس والروم ومن والاهم من قبائل العرب وبالأخص تَغْلِب وإياد والنمر وتَنُوخ وبكر،
وأسفرت هذه المعركة مثل سابقاتها عن نصر مؤزّر للمسلمين وهزيمة مدوية لهؤلاء الحلفاء ومقتل عشرات الألوف منهم حتى إن بعض المؤرخين ذكر أن قتلاهم مائة ألف.
قصة معركة الفِراض
وقصة هذه المعركة أن الفرس وعرب الجزيرة الموالين لهم انتهزوا فرصة خروج خالد لدومة الجندل،
فجيَّشوا جيشاً فارسياً بقيادة زَرْمِهْر ورُوزَبَه يريدان الأنبار، فكتب الزبرقان بن بدر رضي الله عنه أمير الأنبار إلى القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه أمير الحيرة،
فبعث القعقاعُ أبا ليلى بن فدكي التميمي إلى الحُصيد، وبعث عروة بن الجعد إلى الخنافس لقطع الطريق على الفرس.
لكن القائدين الفارسيين قررا انتظار حلفائهما العرب حتى يصلوا إليهم.
ولما وصل هذا الخبر إلى خالد بعد عودته إلى الحيرة قادماً من دومة الجندل قرر مواجهة الفرس،
فأرسل القعقاعَ وأبا ليلى لقتالهم فتوجّها إلى عين التمر وسبقا بذلك جيش الفرس وقطعا عليهما الطريق.
فلما رأى القعقاع أن الفرس لا يتحركون سار نحو الحُصيد، فنشب بينهما قتال شديد فيها فكانت النتيجة مقتلة عظيمة في الفرس،
وقَتَلَ القعقاع القائد زرمهر، وقتل عصمةُ بن عبد الله الضَّبِّي رضي الله عنه القائد روزبه،
فانهار الفرس واندحروا بمقتل قائدَيْهما وهزموا شر هزيمة، وسقطت الحصيد في قبضة القعقاع.
ارتعبت قُلوب سُكَّان الخنافس
لجأت فلولُ الفُرس الناجية من معركة الحُصيد إلى الخنافس، وهي أرضٌ للعرب في طرف العراق قُرب الأنبار،
فارتعبت قلوب سكَّان الخنافس ووهنت نفوسُهم وفرَّ بعضُهم إلى المصَيَّخ للاحتماء بها،
فشكل الفارون قوة إضافية من الجيش الفارسي بقيادة مهبوزان، فتحصن وراء الأسوار المنيعة للخنافس وصمم على التصدي للمسلمين ثأراً لهزيمتهم في الحصيد وظناً منهم أن جيش المسلمين متعب من القتال في معركة الحصيد،
لكنهم اكتشفوا أن الجيش القادم لحربهم هو جيش جديد وهو جيش أبي ليلى،
فسرعان ما سيطر الفزع والخوف عليهم فقرروا عدم الدخول مع المسلمين في معركة غير مضمونة العواقب،
فبدأوا الفرار من الخنافس والانسحاب هم وقائدهم مهبوزان إلى المصيّخ.
وهذا ممَّا سهَّل مُهمَّة أبي ليلى الذي دخل الخنافس فوجدها خالية من الفرس، فسقطت بغير قتالٍ فدخلها وأحكم قبضته عليها،
وعلى الرغم من أن موقعة الخنافس لم تكن معركة بالمفهوم العسكري إلا أن المسلمين انتصروا بها، وأرسل أبو ليلى بخبر ذلك كله إلى خالد.
العرب يثأرون لقتلاهم
وكان امرؤ القيس الكلبي قد أرسل يخبر خالداً بتجمُّع العرب في المُصيّخ وكانوا بقيادة الهذيل بن عمران التغلبي،
وكان دافع العرب أولئك هو الثأر لكثير من قتلاهم وبالأخص عقة بن أبي عقة قائدهم في معركة عين التمر،
فخرج خالد من الحيرة واستخلف عليها عياض بن غنم، وسار بجيشه نحو عين التمر مرة أخرى وعلى مقدمته الأقرع بن حابس.
قرر خالد أن يهاجم المصيَّخ لمنع الحلفاء من إعادة تنظيم صفوفهم، فاستدعى قادته وقسم جيشه ثلاث فرق
فأغار عليهم ليلاً وهم نائمون فقضى عليهم، فنجحوا في دخولها، لكن قائدهم الهذيل تمكن من الهرب مع مجموعة قليلة منهم.
ثم واصل خالد وجيشه التقدم نحو الثّنّي والزَّميل والرَّضاب (وكلها في العراق) وفي فترة قصيرة كانت قد وقعت كلها في أيدي المسلمين،
وكل هذه المعارك وقعت في شهر شعبان من السنة الثانية عشرة للهجرة.
حماية أراضي العراق المفتوحة
بعدها تحرَّك خالد باتّجاه الفِراض على الحُدود المُشتركة بين الفرس والروم وعرب الجزيرة.
وربما كان هدفه تأمين وحماية أراضي العراق المفتوحة ليطمئن على استقرار سلطة المسلمين فيها قبل استكمال فتوح بلاد فارس،
عسكر خالد بجيشه في الفراض جاعلين ظهورهم للصحراء، ومكث خالد هناك شهر رمضان مفطراً لانشغاله بمجاهدة الأعداء،
ولما بلغ الروم أمر مسير خالد إلى الفراض وهي منطقة قريبة من بلادهم فزعوا من الغيط وأخذتهم الحميَّة،
فأعدوا له جموعاً كثيرة وجيشاً عظيماً، واستمدوا قبائل تَغْلِب وإياد والنمر الموالية لهم فاستجابوا لهم وأمدوهم بالمقاتلين،
وكذلك فعل الفرس والعرب المُوالون لهم، فقد حقدوا هم الآخرون على المُسلمين وتنادوا للثأر منهم لما حلَّ بهم من هزائم متلاحقة، ولما فقدوا من قتلاهم.
تحالف الفرس والروم خشية الزوال
دقَّ ناقوسُ الخطر ينذر الفرس والروم بزوال ملكهم وسيطرتهم على العالم،
فأسرعت القوتان العظميان إلى التحالف متناسين عداواتهم التاريخية والحروب الطاحنة التي دارت بينهم أزماناً طويلة،
فلم تمنعهم خلافاتهم وصراعاتهم السابقة من الاجتماع ضد المسلمين،
فهدفهم الأعظم الآن هو وقف تقدم المسلمين وإنهاء خطرهم بعد نجاح فتوحاتهم في العراق والشام،
وبانضمام العرب إليهم أصبح عدد جيوش هذا الحلف الثلاثي أكثر من مائة وخمسين ألفاً،
ومن المؤرخين من قدرها بمائتيْ ألف، وستواجه هذه الجموع الهائلة جيش خالد الذي يقارب عدد جنوده الخمسة عشر ألف مجاهد، ومن المؤرخين من قدره بعشرين ألفاً.
تحالف عربي للروم والفرس
والملاحظ في حروب الروم والفرس ضد المسلمين تحالف العرب الموالين لهم على الرغم من كونهم عرباً مثلهم،
فأين العروبة وأين وحدة الدم؟
وما تفسير العروبيين ودُعاة القومية لذلك؟
لقد كانت شعارات فارغة كان لها صداها العميق على مدى عقود من القرن الماضي،
وكانت مجرد أماني واهية تعلق بها بعض أبناء الأمة على حين غفلةٍ وغفوةٍ منها،
وأشعرنا الإعلام يومها أن القومية العربية هي توجُّهٌ أصيل لدى جماهير الأمة تؤمن بها وتستظل برايتها،
لكنها لم تغنِ عن الأمة شيئاً ولم تحقق لها نصراً ولم تدفع عنا بأساً، فسقطت أخيراً وخلت الميادين من المنادين بها.
خالد رجل يقاتل على دين وله عقل وعلم
زحف الأحزاب الجدُد بتحالفهم الكفْرِيّ نحو الفراض مغترِّين بجحافلهم وآلافهم المؤلفة،
فلما صار نهر الفرات بينهم لجأوا إلى حيلة لاستدراج المسلمين ولإيقاع جيشهم في المهالك،
فقد قالوا لهم:
[إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر اليكم] ولو عبر المسلمون إليهم لانحصروا بين النهر وجيوش العدو
بحيث لا يمكنهم التحرك في هذا المكان الضَّيَّق ولا يمكنهم القيام بهجماتهم الخاطفة التي اشتهروا بها وانتصروا في حروبهم،
لكن خالداً علم بحيلتهم نتيجة قوة استخباراته العسكرية فقال لهم بحنكته العسكرية المعهودة [بل اعبروا إلينا]
فقالوا له [تَنَحَّوْا حتى نعبر] أي أفسحوا لنا الطريق للعبور، فقال لهم [لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا]
حاول بعض عقلاء التحالف إثناءهم عن القتال لعلمهم قوة إيمان المسلمين وتمسكهم بدينهم فقالوا لبعضهم
[احتسبوا مُلْكَكُم، هذا رجل يقاتل على دين وله عقل وعلم،
والله ليُنْصَرَنَّ ولَنُخْذَلَنَّ]
لقد أدرك هؤلاء الأعداء أن العقيدة والعلم والعقل والأخذ بالأسباب هي سر انتصارات خالد وجيوش المسلمين، فأيقنوا بالهزيمة المحققة لهم وبانتصار المسلمين،
ولكن القوم أصروا على القتال، إنه العناد والكِبْر والمكابَرة، وعَظُمَ ذلك في أعينهم وأخذتهم العزة بالإثم، فعبروا أسفل من خالد.
فلما اكتمل عبورهم نهر الفرات من الغرب إلى الشرق قالوا
[امْتَازُوا حتى نعرفَ اليوم ما كان من حَسَنٍ أو قَبيحٍ من أيِّنا يجيء]
أي سترون اليوم من يثبت في القتال ممن يولي هارباً مهزوماً، ومعنى امتازوا أي انْفَصِلُوا عن الآخرين في صف أو مكان مستقل.
الجيش الإسلامي يقهر ثلاثة جيوش عظيمة
شهدت أرض الفراض قتالاً شديداً طويلاً: فثلاثة جيوش عظيمة جرارة تحالفت ضد جيش المسلمين،
لكنهم فوجئوا بشدة هجوم الجيش الإسلامي الذي انقضَّ عليهم كالأُسود الكاسرة فاضطربت صفوفُهم،
ويعلم خالد أنه في مواجهة عدو هم عبارة عن خليط من أعداء الأمس، فأمر بتشديد الهجوم عليهم وتصعيده بكل قوة فقال لجنوده
[ألِحُّوا عليهم ولا ترَفِّهُوا عنهم]
ومعنى ألحوا عليهم أي واظبوا على قتالهم وواصلوا ضربهم بإصرار وبلا يأس وبلا فتور،
ومعنى لا ترفهوا عنهم أي لا تنقّسوا عنهم الكرب ولا تمكّنوهم من رفاهية العيش والهناءة به بعدم رفع سيوفكم عن رقابهم،
وهكذا انفرط عِقدُ جيوش العدو وأخذتْهم سيوف المسلمين من كل مكان،
وانهزمت الحشود التي توحَّدت على العداء للإسلام وأهله، فلم يكن توحدهم نابعاً من القلب والوجدان
وإنما هي المصالح السياسية والعسكرية، وهذه الوحدة الظاهرية لا تمنح القوة الحقيقية لأنها طارئة على نفوسٍ وقلوبٍ مفعمةٍ بالخلاف والتشتُّت والكراهية والبغضاء،
بل إنها سرعان ما تنهار أمام أول الاختبارات، قال سبحانه وتعالى في وصف هذه الوحدة الخدّاعة
{…بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}
الحشر 14،
وفي هذا درسٌ غالٍ وعبرة ثمينة لأمتنا المفرّقة المشتَّتة اليوم، أن الوحدة التي تنعقد عليها القلوب والضمائر من أقوى أسلحتها أمام عدوها المتربص بها،
فهي الصخرة الصلدة التي تتحطم عليها كل مؤامراته ومخططاته الخبيثة ضد الإسلام وأهله، فالاختلاف والتنازع مضعفٌ للأمة مذهِبٌ لقوتها،
قال ربنا جل ثناؤه {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
الأنفال 46.
أقام خالد في الفراض عشرة أيام ثم أمر بالرجوع إلى الحيرة في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة.
وبعث بالبشارة والفتح والخمس إلى الخليفة أبي بكر الصديق في المدينة المنورة.
انكسار شوكة الفرس
انكسرت شوكة الفرس بعد هذه المعركة ولم تقم لهم قائمة تذكر، ولم تعد لهم قوة حربية يخشاها الإسلام بعد هذه الموقعة.
وتعد هذه المعركة من أعظم معارك التاريخ الإسلامي، وهي خاتمة المعارك التي خاضها خالد في العراق،
إذ إنه تلقّى الأمر من الخليفة أبي بكر الصديق بالتوجُّه إلى الشَّام لِنجدة الجيوش الإسلاميَّة المرابطة هناك،
فترك خالد الحيرة بعد أن استخلف عليها عمرو بن حزم الأنصاري مع المُثنّى بن حارثة الشيباني رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم.
وقرر خالد وهو في طريق العودة أن يؤدي فريضة الحج في سِرِّيَّة تامة، فأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة،
وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة،
وأظهر خالد أنه يسير في الساقة، وسار في عدة من أصحابه رضي الله عنهم قاصداً المسجد الحرام،
فتوجّه إلى مكة المكرمة عبر طريق لم يسلكه أحدٌ قبله قط، واجتاز مَفَازَةً عظيمة قيل إنه قطعها في خمسة أيام فأدرك الحج،
ثم عاد فأدرك آخر الساقة قبل أن يصلوا الحيرة، ولم يعلم أحد بحج خالد إلا قليل من الناس،
ولم يعلم الخليفة بذلك إلا بعدما رجع أهل الحج من الموسم وأخبروه،
فبعث له يعتِبُ عليه مفارقته الجيش، لكنه غفر له ذلك وهنأه، وكان مما كتب إليه:
[… وإن الجموع لم تشج بعون الله شجيك، فليهنك أبا سليمان النية والحَظْوَة، فأتمِمْ يٌتْمِم الله لك،
ولا يَدْخُلَنَّكَ عجْبٌ فتخسر وتخْذَل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المنُّ وهو ولي الجزاء]