د. تيسير التميمي يكتب: معركة بُصْرَى من فتوحات الشام
جرت معركة فتح بُصرى في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر للهجرة النبوية، ودارت رحاها بين جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين الروم بقيادة رومانوس والقيصر هرقل،
وبصرى (اليوم في سوريا تتبع محافظة درعا) مدينة مهمة كانت فيها حامية رومانية كبيرة تقع على بعد 140 كم جنوب مدينة دمشق،
يسكنها الروم وقبائل من العرب الغساسنة الموالين لهم، وعدد الجنود الرومان فيها يقدر بإثنيْ عشر ألف جندي.
واحدة من معارك فتوح الشام
ومعركة بصرى هذه كانت واحدة من معارك فتوح الشام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بفتح الشام بأحاديث كثيرو منها قوله
{تَغْزُون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارِس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله}
رواه مسلم،
ومنها أيضاً قوله {إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيتُ الكنزَيْن الأحمر والأبيض}
رواه مسلم،
ومعنى زوى لي الأرض أي جمعها وطواها لي حتى أبصرت ما تملكه أمتي من أقصى مشارقها ومغاربها،
ومعنى الكنزين الأحمر والأبيض إشارة إلى فتح بلاد الروم وبلاد الفرس، فمعلوم تاريخياً أن غالب كنوز الروم كانت من الذهب وغالب كنوز الفرس كانت من الفضة والجوهر،
برهان ذلك تاج كسرى وأمواله التي في قصوره وفي كل مملكته المترامية الأطراف وصارت بيد الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه،
وكذلك أموال وكنوز هرقل التي غنمها المسلمون لمَّا سقطت بلاده بأيديهم.
وورد حديث آخر يبشر صراحة وبالنص بفتح الشام، فقد قال البراء بن عازب رضي الله عنه
{أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول ثم قال بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر وقال الله أكبر أُعْطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحُمْرَ من مكاني هذا، ثم قال بسم الله وضرب أخرى فكسر ثلث الحج فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرَها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال بسم الله وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا}
رواه أحمد
قِصّة معركة بصرى
وقصة معركة بصرى هذه أن خالداً بن الوليد رضي الله عنه لما ترك جيشه بالحيرة في العراق بعد معركة الفِراض مع بعض قادته
وذهب إلى الحج بغير إذن الخليفة وعاد على الفور إلى الحيرة بعث إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسالة لوم وعتاب على ترك جيشه والذهاب للحج بغير إذن،
لكنه عفا عنه وأمره أن يتوجه إلى الشام أميراً لكل الجيوش المسلمة هناك،
ومما جاء في الرسالة
[إذا جاءك كتابي هذا فَدَعْ العراقَ وخَلِّفْ أهله فيه الذين قَدِمْتَ عليهم وهم فيه، ثم امْضِ مُخَفِّفاً في أهل القوة من أصحابنا الذين قَدِمُوا معك العراقَ من اليمامة وصَحِبُوكَ من الطريق وقَدِمُوا عليك من الحجاز حتى تأتي الشامَ فتلْقَى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، فإذا الْتَقَيْتُمْ فأنت أمير الجماعة. والسلام عليك ورحمة الله]
الموقف العسكري في الشام متأزم
جاء قرار أبي بكر هذا لأن الموقف العسكري في الشام متأزم حيث طلب منه جيش المسلمين المدد،
فعلى الطرف الشمالي الشرقي لحامية بصرى كانت تعسكر قوات أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه،
وكان شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه قد توجه بأربعة آلاف مقاتل لمحاصرة الحامية ريثما يصل خالد بقواته فيقتحموها معاً، وصلت قوات شرحبيل قبل جيش خالد بيومين فبدأ بحصار حامية بصرى،
فقرر أميرها البيزنطي روماس أو رومانيوس الخروج إليهم في اليوم الثالث للحصار لاستهانته بعدد المسلمين الضئيل،
واستمرت المعركة بينهما لوقت قصير ساعتين تقريباً ثبت فيها المسلمون وتمكنوا من المقاومة،
لكن جنود الروم قاموا بالالْتفاف عليهم وبمحاولة تطويقهم وكادوا أن ينجحوا في الفتك بهم لولا تقدير الله عز وجل،
ففي هذه الأثناء ظهرت مقدمة جيش خالد مما أنقذ الموقف، فقد فوجئ الروم وتراجعوا ولجأوا لحاميتهم حتى يُعِدُّوا أنفسهم للمعركة القادمة.
وأما رحلة خالد إلى دمشق وبصرى فقد استناب المثنى بن حارثة رضي الله عنه على العراق ثم انطلق بجيشه إلى الشام عَبْرَ طريق وعرة لا تسلكها القوافل عادة وهي صحراء السَّمَاوَة ومعه رافع بن عميرة الطائي كدليل له في هذه الطريق،
قطع الجيش الإسلامي البوادي والفيافي والقفار، فلما وصلوا شجرة عوسج على الطريق، وهي شجرة ضخمة قطعت وبقيت منها بقية،
وهنا قال لهم رافع: احفروا في أصلها، فحفروا واستخرجوا عيناً فشربوا منها حتى ارتوى الناس.
ثم أكمل خالد السير ناشراً راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي راية سوداء تسمى العُقاب.
أعظم المغامرات العسكرية في التاريخ
كان مسير خالد هذا من أعظم المغامرات العسكرية في التاريخ جرأة وإقداماً، وهي خطة عبقرية منه لعدة أسباب:
فأولاً: هذه الطريق أقصر من الطريق القديمة المعهودة التي تعتبر أكثر أمناً، كما أن هذه الطريق تؤدي إلى دمشق مباشرة،
وثانياً: لأن خالداً يهدف لمفاجأة الروم، فهم لن يخطر ببالهم وصول مدد لجيش شرحبيل من جهة الشمال بل سيغلب على ظنهم قدومه من الجنوب أي من المدينة المنورة،
وثالثاً: أراد خالد في الوقت ذاته الوصول بسرعة إلى بصرى لزيادة إحكام الحصار عليها،
وهكذا كان خالد يسبق الخبر كما وصفه رواة التاريخ، بمعنى لو كان هناك جواسيس للعدو كان خالد يصل قبل وصول أخبارهم.
قطع خالد المسافة من الحيرة إلى دمشق في ثمانية أيام وقيل بل في ستة أيام إذ إن جيشه كان يقطع في اليوم الواحد ضعف المسافة التي يقطعها الجنود العاديون،
فالعبقرية والقيادة الفذة كانت لخالد، والإقدام والتفاني في سبيل الله كانت لجنوده أيضاً،
ولما وصل خالد وجنوده منطقة أرج حاصرها فاستسلم أهلُها وفتحها صلحاً،
ثم اتجه إلى تدمر وحاصرها فاستعصت عليه لعلوّ أسوارها، ولعدم خروج أهلها لحربه وبقائهم داخل حصونهم،
ولأن خالد في عجلة من أمره ليصل إلى الشام أرسل رسالة إلى أهل تدمر قال فيها
[والله لو كنتم في السحاب لاسْتَنْزَلْناكُمْ ولَظَهَرْنا عليكم، وما جئناكم إلاَّ ونحن نعلم أنكم ستفتحونها لنا،
وإن أنتم لم تصالحوني هذه المرة لأرجعنَّ إليكم لو قد انصرفت من وجهي هذا،
ثم لا أرتحلَ عنكم حتى أقتلَ مُقاتِلَتَكُم وأسبي ذراريكم] ثم تركهم ورحل،
لا طاقة لهم بخالد وجيشه
تشاور كبار القوم من أهل تدمر فرأوا أنهم لا طاقة لهم بخالد وجيشه لأنه الرجل الموعود بفتح مدينتهم حسب ما جاء في كتبهم من وصفه ووصف رايته،
فأرسلوا رسولاً في إِثْرِه فعاد إليهم مرة أخرى وتسلم منهم المدينة صلحاً،
ثم توجه خالد إلى مدينة حواريين فحاصرهم لكنهم لم يخرجوا لقتاله بل طلبوا المدد، فجاءهم ألفان من بَعْلَبَك وألفان من بُصرى،
فترك خالد جيشه المحاصر لحواريين وانتخب مائتيْ مقاتل ممن معه وهاجم بهم أولاً المدد القادم من بعلبك فقتل منهم مقتلة عظيمة،
ثم الْتفَّ حول حواريين وقاتل ثانياً المدد القادم من بصرى وقتل منهم أيضاً مقتلة عظيمة،
واستمر في حصار حواريين حتى خرج له جيشها فاستسلموا، فكان فتح هذه المدينة في النهاية صلحاً.
يروي أحد من هُزِمَ في حواريين ثم أسلم بعد ذلك يقول
والله لقد خرجنا إلى خالد وإنَّا لأكثر منهم بأضعافهم، فما هو إلا أن دنونا منهم فثاروا في وجوهنا بالسيوف كأنهم الأُسْدُ،
فهزمونا أقبح هزيمة وقتلونا أشد القتل، وقد رأيت منا رجلاً كنا نَعُدُّه بألف رجل وكان يقول:
لئن رأيت أميرهم لأقتلنَّه «فلما رأى خالداً قال له أصحابه» هذا أميرهم فاقتله، فأقبل على خالد وحمل عليه، وإنا لنرجو أن يقتله من بأسه وشدته،
فلما دنا من خالد استقبله خالد بالسيف فضربه ضربة واحدة فأطار نصف وجهه وقَحْفَ رأسه، فدخلنا مدينتنا وما كان لنا من همٍّ إلا الصلح]
ووصف هذا الرجل خالداً وهو يقاتل بقوله [كان له هيبة وكان يَرْبُو على القوم] ومعنى يربو أي يعلو.
الانتصار في مرج راهط
ثم توجه خالد بعد ذلك إلى مرج راهط وهي مدينة مهمة تسكنها قبائل من غسان فهاجمها وانتصر على عسكرها وقسَّم غنائمها،
وأرسل خمُسها إلى الخليفة في المدينة المنوّرة، وأكمل المسير إلى جيش المسلمين المحاصِرِ لبصرى.
أما من حيث خطة المعركة فقد بادر خالد فور وصوله أولاً بتنظيم جيشه الذي بلغ عدده ثلاثة وثلاثين ألف مجاهد:
فجعل نفسه في قلب الجيش، ووضع رافعاً بن عمرو على الميمنة، وضراراً بن الأزور على الميسرة،
وقسَّم مؤخرة الجيش نصفين:
المسيب بن نشبة على الفرقة اليمنى، ومذعوراً بن عدي على الفرقة اليسرى،
والبند الثاني من خطة القتال أنه جعل مؤخرة الجيش بفرقتيْها بعيدة عن الجيش، وأمرها ألاَّ تشترك في القتال إلاَّ بعد أن يأمرها بذلك.
ولما علم الروم بقدوم الإمدادات لجيش المسلمين خرج جيش بصرى من الحصن لمواجهته،
وبدأ خالد بالهجوم على جيش الروم بالمقدمة والميمنة والميسرة فقط، فحمل جيش الروم عليه حملة عظيمة،
فصبر خالد على هجماته الشديدة المتتالية أثناء التصدي لها، ثم نادى جيشه يحثُّ جنوده على الجهاد والثبات بقوله
[يا أهل الإسلام الشِّدَّةَ الشِّدَةَ، احمِلُوا رحمكم الله عليهم، فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين تريدون بذلك وجه الله فليس لهم أن يواقِفُوكم ساعة]
ومعنى الشدة الشدة أنه يدعوهم إلى تشديد الهجوم على العدو وعدم اللين او التراخي معه، ومعنى احملوا عليهم أي هاجموهم،
ومعنى فليس لهم أن يواقفوكم ساعة أي لن يقفوا ولن يصمدوا أمامكم ساعة، يقول قيس بن أبي حازم أحد الجنود
[لقد كنا مطمئنين لما يفعله خالد لأننا كنا نعلم أن القليل من العدو والكثير عنده سواء، فإنه لا يملأ صدره منهم شيء] أي لا يحسب لهم حساباً.
انتصار ساحق للمسلمين، وهزيمة مدوية لجيش الروم
استمر القتال على أشده حتى ظن الفريقان أن صبرهما قد نفد،
وهنا أمر خالد فرقتيْ المؤخرة المتأخرتين بعيداً عن الجيش فهجمتا من بعيد والْتَفَّتا على العدو ثم انْقَضَّتا عليه من خلفه،
فكانت النتيجة انتصاراً ساحقاً للمسلمين، وهزيمة مدوية لجيش الروم وعدد كبر جداً من القتلى،
وهروب بقيتهم إلى داخل حصن بصرى ومن ثم إعلانهم الاستسلام، وكان ذلك بعد شهر من قدوم خالد وجيشه.
فكانت أول مدينة فتحت من الشام في عهد أبي بكر، وبعث خالد بأخماس ما غنم من الروم ومن الغساسنة مع بلال بن الحارث المزني إلى الخليفة الصديق
وصلت أنباء هزيمة الروم في بصرى إلى قيصرهم هرقل الذي كان رافضاً لهذه الحرب بل لكل الحروب مع المسلمين ليقينه بانتصارهم،
فقال [ألم أقل لكم لا تقاتلوهم؟ فإنه لا قَوام لكم مع هؤلاء القوم] فقالوا له [قاتل عن دينك ولا تجَبّنِ الناس واقْضِ الذي عليك]
فرد عليهم هرقل قائلاً [وأيُّ شيء أطلبُ إلاَّ توقير دينكم؟]
إنها إذن حرب دينية انتصاراً للعقيدة والإيمان، قد تكون المصالح من دوافعها؛ لكن الدين أساسها وقد صدق الله تعالى القائل في محكم التنزيل
{الَّذِينَ آمَنُوا يقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}
النساء 76،
ومعنى الطاغوت أي الشيطان ومنهاجه والكفر وأربابه.