د. تيسير التميمي يكتب: معركة وادي المخازن
معركة وادي المخازن أو القصر الكبير أو معركة الملوك الثلاثة، معركة فاصلة وذات أهمية عظيمة شبهها بعض المؤرخين بغزوة بد الكبرى،
دارت رحاها على أرض المغرب الشقيق في الثلاثين من شهر جمادى الآخرة من عام تسعمائة وستة وثمانين من الهجرة النبوية المشرفة،
وكانت بين جيش المسلمين بقيادة السلطان عبد الملك السعدي ثم أخيه أحمد وبين تحالف صليبي ضخم بقيادة سيباستياو الأول ملك البرتغال،
أما نتيجتها فكانت انتصار جيش المسلمين وهزيمة البرتغاليين في معركة استمرت لأقل من ست ساعات،
بل ومن نتائجها كذلك انهيار مملكة البرتغال عسكرياً وسياسياً واقتصادياً بعد موت ملكها وجلّ رجال الدولة وقيام فيليب الثاني الملك الإسباني بضمها إلى بلاده.
قصة معركة الملوك الثلاثة
وأما قصة هذه المعركة فأقول: تعاقبت على حكم بلاد المغرب منذ القرن الثامن الهجري عدة دويلات إسلامية،
منها على سبيل المثال لا الحصر: المرابطون والموحدون والسعديون،
ومنذ عام 916 للهجرة النبوية المشرفة بزغ نجم الدولة السعدية، أطلق أهل المغرب عليها هذا اللقب لأنهم سعدوا في عهدها وشعروا بالأمن والسكينة من بعد الاحتراب والفتن،
وعاشوا في ظلها سنوات من المجد وبلغت الحضارة أوجها من حيث الثقافة والمعرفة والثروة،
وتمكنوا من القضاء على النفوذ البرتغالي ثم الإسباني في المغرب، وتمكنوا أيضاً من استعادة بعض الحصون والموانئ الشمالية،
وحرروا مدينَتَيْ أصيلا والقصر الكبير من الاحتلال البرتغالي.
السلالة السعدية
ومن ملوك السلالة السعدية ملكها الثالث واسمه الغالب بالله، لما توفي هذا الملك في عام 982 للهجرة اعتلى العرش من بعده ابنه المتوكل في مخالفة واضحة للقواعد المتبعة في الدولة،
فالأحق بالملك منه حسب تلك القواعد هو أخو الغالب واسمه عبد الملك، رأى عبد الملك أن المتوكل قد اغتصب منه الحكم وأنه لا يملك الشرعية الدستورية للحكم،
أضمر المتوكل القضاء على عمه عبد الملك وعمين آخرين له هما عبد المؤمن وأحمد، ففروا منه مستنجدين بالدولة العثمانية،
فبعثت لهما خمسة آلاف من مقاتليها دخلوا معهم أرض المغرب ليعيدوا لعبد الملك حكمه المسلوب،
دخل عبد الملك المغرب ومعه العثمانيون وانضم إليهم رئيس جند الأندلسيين الذين انشقوا عن جيش المتوكل بسبب تحالفه وتعاونه مع أعدائهم الإسبان والبرتغاليين الذين طردوهم من ديارهم وقتلوا إخوانهم في الأندلس،
فانتصر هؤلاء على المتوكل في معركة قرب مدينة فاس، فدخلها عبد الملك في شهر ذي الحجة من عام 983 للهجرة
وجعل عليها أخاه أحمد ثم ضم إليها مراكش، فهرب المتوكل ولاحقه عبد الملك إلى جبال سوس ثم إلى سبتة ثم إلى طنجة المحتلة من البرتغال،
المتوكل يستنجد بملوك أوربا
استنجد المتوكل المخلوع بملك إسبانيا فرفض نجدته، فاستنجد بملك البرتغال سيباستياو الأول، فاستجاب له وقدم له الدعم،
إذ وجدها سباستيان فرصة مواتية لرفع مكانته في أوربا وتوسيع حدود وأراضي مملكته، لكنه اشترط على المتوكل شرطاً ثميناً فقد قال له
[… نحن خارجون وأنت معنا، فإن ظفرنا بالبلاد فلا قَسْمَ لنا معك فيها إلاَّ السواحل، وما دونها فهو لك… ]
فرضي لهم بذلك وتعاهدوا وتحالفوا عليه فيما بينهم بالأَيْمَان وبالصُّلبان، فعند ذلك شرعوا في بناء الأسطول والجيش ودفع المال وما يحتاجون إليه لهذه الحملة وأول ما أعطاهم المتوكل مدينة أصيلا.
غضب علماء المغرب وعامة الناس على المتوكل فاعتبروه خائناً لدينه ولوطنه، وأرسلوا إليه رسالة شديدة اللهجة والحدّة يتهمونه فيها بالخيانة العظمى وبالكفر والتحالف مع الأعداء،
ومما جاء فيها [… اتّفقتَ معهم (أي مع البرتغاليين) على دخول أصيلة وأعطيتهم بلاد الإسلام،
فيا لله ويا لرسوله هذه المصيبة التي أحدثتَها وعلى المسلمين فتقتها، ولكن الله تعالى لك ولهم بالمرصاد، ثم لم تتمالك أن ألقيتَ نفسك إليهم ورضيت بجوارهم وموالاتهم …]
لكن المتوكل لم يتراجع بل تمادى في حث البرتغاليين على الإسراع لمواجهة عبد الملك وقواته،
وما كان يدري انه يسير إلى هلاكهم وهلاكه معهم،
إنه مستنقع الخيانة الذي وقع فيه بمحض إرادته التامة طمعاً بالعرش واستئثاراً بالحكم حتى
وإن كان المقابل أرض المسلمين التي رواها القادة الأخيار والفاتحون الأبرار والمجاهدون الأبطال بدمائهم الزكية.
اتصل سيباستياو بخاله فيليب الثاني ملك إسبانيا يدعوه للمشاركة في هذه الحملة الصليبية الجديدة على المغرب حتى لا يحاول المسلمون استعادة الأندلس أو حتى مجرد التفكير بذلك، فأمده فيليب بعشرين ألف مقاتل من الإسبان،
وحشد سيبستياو نفسه اثني عشر ألف مقاتل من البرتغال، وأرسل الإيطاليون له ثلاثة آلاف مقاتل، وأمدته ألمانيا بثلاثة آلاف مثلهم،
وبعث إليه البابا بأربعة آلاف أخرى وبألف وخمسمائة من الخيل وباثنَيْ عشر مدفعاً،
وجمع سيبستياو نحو ألف مركب ليحمل هذه الجموع إلى أراضي الدولة المغربية.
معركة أحزاب جديدة
إنها معركة أحزاب جديدة وجيوش جرارة فيهم الرَّجَّالة المشاة، وفيهم الفرسان بخيولهم والرماة بعتادهم،
وعلى هامش هذا الجيش يقف المتوكل الذي لم يكن يريد أصلاً المشاركة في الحرب لكن سيباستياو شرط عليه الخروج معهم،
فشارك بمن معه من أتباعه وتعدادهم ما يقرب من 600 فارس.
أما جيش عبد الملك فكان أقل عدداً وعُدَّة وعتاداً من جيش العدو كما عهدنا ذلك عبر التاريخ في جلّ المعارك الإسلامية،
فكان جيشه يضم الجنود المجاهدين المغاربة والأندلسيين والعثمانيين والمتطوعين من الأهالي،
وفيهم المشاة والرماة والفرسان ومعهم 34 مدفعاً، وفي مقدمتهم عبد الملك وأخوه أحمد،
أبحرت سفن الأعداء من ميناء لشبونة باتجاه شمال المغرب،
وأقامت في لاكوس بضعة أيام ثم توجهت إلى قادس وأقامت فيها أسبوعاً كاملاً ثم رست في طنجة المحتلة سابقاً حيث يوجد المتوكل،
ثم تابعت السفن سيرها إلى المدينة الساحلية المغربية أصيلا التي وقعت تحت الاحتلال البرتغالي بعد أن تنازل لهم المتوكل عنها،
فخشيَ عبد الملك بحِنكته وذكائه ومعرفته شخصية سيبستياو المتسرعة وسريعة الغضب؛
خشي أن يواصل اجتياح المدن القريبة كمدينة القصر الكبير وغيرها ويحتلها قبل وصوله إليه،
فأرسل إليه من مراكش رسالة يستفزه فيها للحرب والقدوم للمواجهة، أراد عبد الملك بهذه الرسالة صرف نظره عن احتلال تلك المدن،
وبذلك يكسب وقتًا يصل فيه إلى ميدان المعركة.
غضب سيباستياو من هذه الرسالة وعمِيَتْ بصيرته فخالف آراء قادته الذين نصحوه باحتلال المدن القريبة أولاً، لكنه قرر مواجه عبد الملك ودخول الحرب،
وبذلك تمكن عبد الملك من تجميع جيوشه ومعه المتطوعون وكل من رغِب بالجهاد والاستشهاد فتحرك بها من مراكش،
وكتب إلى أخيه أحمد أن يخرج بجند فاس وما حولها ويتهيأ للقتال،
وهكذا سار جند مراكش بقيادة عبد الملك وسار أخوه أحمد بجند فاس وما حولها فالْتقوْا في وادي المخازن أو القصر الكبير،
موقع المعركة
قرر عبد الملك أن يكون هذا الوادي هو موقع المعركة،
فبعث رسالة استفزازية جديدة لسيباستياو يستدرجه للقدوم من السواحل المغربية إلى الموقع الذي خطط هو له،
وبهذه الرسالة أدرك سيباستياو أن عبد الملك لن يتقدم عن المكان الذي عسكر فيه،
فنصحه قادته والمتوكل ألاَّ يترك مدينة أصيلة ليبقى على اتصال بالمؤن والعتاد والبحر،
ولكنه رفض النصيحة للمرة الثانية وأمر جيشه بالزحف إلى وادي المخازن، فاجتاز الجيش الجسر المنصوب فوق النهر الفاصل بين الطرفين،
ولما اكتمل عبورهم أمر عبد الملك بهدم هذا الجسر في جنح الليل دون علم العدو بذلك، أراد عبد الملك قطع خط الرجعة على العدو وعزله عن الإمدادات التي قد تأتيه من أسطوله الرابض على شواطئ المغرب، فهدموه ونسفوه.
وقد رأينا في معظم الحروب الإسلامية كيف يتغلب القادة المسلمون على قلة عدد جنودهم بالتخطيط الدقيق والمحكم للمعركة،
وهذا ما كان من عبد الملك، فقد قسم جيشه تقسيماً بارعاً فجعل المدفعية في المقدمة،
ثم بعدها صفوف المشاة ثم جعل القيادة في القلب وجعل الرماة وبقية المتطوعين على الميمنة والميسرة،
وأخفى كتيبتين بعيداً عن الميدان لتنقضَّ على العدو في الوقت المناسب ولمطاردة فلول المنهزمين.
عبد الملك خطيباً
وفي صباح يوم الاثنين 30 جمادى الآخرة 986هـ وقف عبد الملك على فرسه خطيباً بجنده على الرغم من مرضه الشديد يحرضهم على القتال والاستبسال والثبات والصبر، ويذكرهم بقول الله سبحانه
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا توَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الأنفال 15،
وبقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الأنفال 45،
وفي الجانب الآخر وقف القساوسة والرهبان يُثيرون حماس جندهم ويبشرونهم بأن البابا قد حلَّ أوزار وآثام من يموت منهم في هذه المعركة ووعدهم بالغفران.
بدء المعركة
انطلقت النيران إيذاناً ببدء المعركة، وتواجه الجيشان بالمدفعيتين، وبعدهما الرماة المشاة وعلى المجنبتين الفرسان،
وانطلقت عشرات الطلقات النارية من الطرفين كليهما إيذاناً ببدء المعركة،
وهاجم أحمد بمقدمة الجيش مؤخرة البرتغاليين وهاجم بالفرسان ميمنتهم وميسرتهم في مناورة تطويقية وهو تكتيك الكماشة المشهور،
وأشعل النار في بارودهم واتجهت موجة مُهاجمة ضد رماتهم في المقدمة والقلب فقتل العديد منهم.
ولما التقت الفئتان توفي السلطان عبد الملك رحمه الله، ولم يعرف وفاته إلا أخوه أحمد فكتم موته، ووجه الجيش بأوامر كأنها صادرة عنه،
واستمر القتال إلى أن نصر الله عز وجل جنده وهزم الأحزاب الجدد، فولَّوْا هاربين بعد أن دارت عليهم دائرة الهزيمة وقصدوا الجسر فلم يجدوه،
فتهافتوا وغرقوا في النهر ولم يَنجُ منهم إلا مائة رجل حسب بعض المؤرخين، ووقع في الأسر أكثر من 16000 جندي،
وكان بضمن الغرقى المتوكل وسيباستياو وألوف من النبلاء والأمراء والقادة، وفرَّ الناصر أخو المتوكل وابن أخيه إلى لشبونة ومنها إلى قرمونة
حيث استضافهم ملك إسبانيا، لم يعتبروا بمصير المتوكل، بل ساروا على درب موالاة أعداء دينهم وأمّتهم، وأين هم من قول الله جل ثناؤه
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
الممتحنة 1.
مات في المعركة الملوك الثلاثة
مات في هذه المعركة في اليوم ذاته الملوك الثلاثة، ولكن لا سَوَاء بينهم،
فعبد الملك شهيد بإذن الله لقي الله تعالى منذ أول اصطدام مع العدو،
وغرق المتوكل وحليفه وداعمه سيباستياو في النهر،
ولذلك يطلق على هذه المعركة في بعض المصادر التاريخية: معركة الملوك الثلاثة.
وعقب ذلك الانتصار الساحق للمسلمين أخبر الملك أحمد الجميع بموت السلطان عبد الملك وتوليه أمور البلاد تنفيذاً لوصية أخيه التي أوصى بها له لما شعر بالمرض ودنوّ الأجل،
فكان مما قال له: [… فاعلم أني لا أحبّ أحداً بعد نفسي محبتي لك، ورغبتي في انتقال هذا الأمر بعدُ إلاَّ إليك لا لغيرك…]