د. جمال أبو حسان يكتب: الغرب والعلم والدين بعد الحروب الصليبية

كان الغرب عموما يعيش في مرحلة ظلام دامس من عهد الإمبراطورية الرومانية وبقي هذا الظلام يلفهم لفا، وقد حاول الغرب بعد أن رأى انتشار الإسلام في كل مكان وسيطرة المسلمين على كثير من بقاع الدنيا، وكان كثير من هذه السيطرة يتم بدون لمعان السيوف، وإنما من آثار اختلاط المسلمين بغيرهم وتعاملهم الحكيم معهم، علاوة على ذلك ما حصل من النبوغ العلمي وسط الأمة الإسلامية الذي ابهر العالم، مما حفز كثيرين إلى الدخول في دين الله أفواجا.
رفع الأذان فوق كنيسة أيا صوقيا
ثارت ثائرة المسيحية العالمية بعد استيلاء محمد الفاتح على القسطنطينية ورفع الأذان فوق كنيسة أيا صوقيا وتحويلها إلى مسجد،
فتجهزت المسيحية إلى الدخول في حرب طاحنة سمتها الحروب الصليبية، لاجتياح بلاد المسلمين واجتثاث الإسلام،
فعملوا في المسلمين قتلا ونهبا لم تشهد الدنيا له مثيلا في ذلك الوقت، ولكنهم في النهاية هزموا واستمر الإسلام والمسلمون،
حينها رأى الصليبيون أن الحرب بالسيف والمدفع لن يصنع شيئا في اجتثاث الإسلام وأهله،
فعمدوا إلى العلم الذي وجدوا أن أمة الإسلام قد بلغت فيه مبلغا عجيبا من المعرفة والسؤدد،
بث الديانة المسيحية
إضافة إلى ذلك جيشوا أعدادا هائلة من الرهبان لبث الديانة المسيحية وتعليمها للشعوب التي تنتمي إلى أوروبا كلها،
والناظر إلى أحوال أوروبا يجد أن العلم هو الذي أنقذهم من سلطان الكنيسة الجاهل والجائر،
وبث الرهبان ليعملوا على تحقيق أركان النصرانية وإشاعة مبادئها، والعمل الدؤوب على تشوية صورة الإسلام الذي انتشر في أوروبا وذلك بسائر صنوف الأكاذيب من هؤلاء القساوسة والرهبان،
حتى صار يخيل للأوروبيين أن المسلمين من جنس بشري بعيد عن أجناسهم تشويها بما صنعوه،
فاستطاعوا بعد جهد جهيد من تشكيل ثلاثة طوائف هي عبارة عن ثلاثة وجوه لجسم واحد وهي: الاستشراق والتبشير والاستعمار،
ولم يستطع الاستعمار ان يصنع شيئا إلا بعد أن أفنى المستشرقون والمبشرون حياتهم في دراسة الوطن العربي والإسلامي بكل ما فيه،
وعملوا على سرقة تراثه وتشويه دينه في المناطق النائية منه حتى وصل التشويه الى عواصم تلك البلدان!!
زراعة اليهود في فلسطين
ثم جاء الاستعمار فوجد كل شيء جاهزا فلم يتكلف عناء شديدا في الاستيلاء على الوطن العربي والعالم الإسلامي،
وذلك بعد القضاء على الخلافة العثمانية والبدء بزراعة اليهود في فلسطين لتشكيل كيان فاعل في تفتيت الأمة العربية والعالم الإسلامي،
وبقي الاستعمار جاثما حتى استطاعت الشعوب أن تفيق بعض الإفاقة، فخرج الاستعمار وزرع وراءه مستعمرين من جنس أبناء البلاد التي خرجوا منها،
والناظر في كل ما سبق يجد أن الأمم الغربية ما استطاعت الوصول إلى ما وصلت إليه إلا باستغلال العلم ونهب تراث المسلمين وترجمته،
ونشر الرهبان والقساوسة ليشتغلوا ليل نهار على أمرين:
الأول الدعوة إلى النصرانية وإمدادهم بما يريدون من الأموال وغيرها،
والثاني تشويه الإسلام بمحاولة النيل من القرآن وتشويه صورة متبعيه!!
نواب الاستعمار
خرج هذا الاستعمار وترك نوابا جعل من عملهم ومسؤولياتهم أمرين اثنين:
الأمر الأول أن لا يُعلِّموا الشعوب علما يرتقي بهم إلى مصاف الشعوب الغربية،
والثاني أن لا يفسحوا لعلماء الدين والدعاة أن يؤدوا رسالة الإسلام كما أرادها الله تعالى، وكما فعلها السابقون من المسلمين.
كان الغربي يتعلم لأجل أن ينهض بأمته النصرانية، ويسخر حياته لأجل هذا، أما المسلمون فصاروا يتعلمون من أجل الارتزاق بالعلم والحصول على مناصب دنيوية تدغدغ عقولهم وأحاسيسهم، وتقنعهم بالرضا لما هم فيه.
وكان الراهب والقسيس يقضي حياته في نشر النصرانية بين الشعوب المسلمة ولا يهمه أن يذوق في حياته قساوة الحرمان!
المهم أن يعمل لنشر دينه، وقد وجد دعما غير محدود من الحكومات التي ينتمي إليها وإن كانت تلك الحكومات لا تحفل بالدين إلا لتحقيق مصلحة!
قبول أفكار الغربيين الهادمة
هاجمت الدول العربية وأكثر بلاد المسلمين العلم بطرق مختلفة من أهمها اليوم القبول دون تردد بأفكار الغربيين الهادمة لكل علم نافع في بلاد المسلمين والمتعارضة في كثير منها مع الدين والأعراف والقيم والأخلاق،
والحيلولة دون وصول الطلاب إلى شيء منه يستطيعون رفد أمتهم للخلاص مما هي فيه،
فصارت المدارس والمعاهد والجامعات عبئا على دولها من كثرة الخريجين الذين لا يجدون عملا،
ويتخرجوا في الجامعات والمعاهد ساخطين عليها، وصار عندنا في العالم العربي والإسلامي طوائف من المعلمي والمدرسين لا يهمهم من عملهم شيئا إلا انتظار الراتب الشهري الذي تمنحهم إياه الحكومات،
وبالكاد يسدوا منه الرمق الحياتي حتى لا يطغى على أدمغتهم شيء من التفكير الناهض!
وصار كل مبدع في العالم الإسلامي عرضة للتضييق عليه في سائر صنوف حياته، أذكر في إحدى الجامعات في بلد عربي أن طالبا كان يدرس في كلية شريعة،
وكان مبدعا فصنع أنموذجا لطائرة ففشا خبره بين الطلاب وعلمت به حكومة ذلك البلد، وإلى الآن لم يُعلم عنه أي شيء،
بل طواه النسيان وطوى معه إبداعه، وأذكر أنه في بلد عربي وجد من يستطيع تشغيل سيارة بواسطة الماء بدل البنزين فطويت صفحته!!
حال التعليم في بعض بلدان المسلمين
وآخر استطاع أن يستبدل البنزين بالغاز في جعل الوقود لسارته، فمنع منعا شديدا بقانون تلك الدولة،
وأذكر أني كنت مسافر إلى بلد فاجتمعت بثلة من أصحاب العلم فاخبروني أن زميلا لهم استطاع أن يصنع جهازا يسجل أصوات مجموعة من المشاركين في جلسة واحدة، ولو كانوا خمسين شخصا.
ثم بعدها يستطيع الجهاز أن يجمع ما تكلم به كل شخص وحده دون أن يخلط كلامه بكلام غيره! فسمعت به الحكومة في ذلك البلد،
فكافأته بأن جعلته مدرسا للمدارس الابتدائية في قرية نائية في تلك البد. هذا جانب مما يكشف حال التعليم في بعض بلدان المسلمين!!
وأما علماء الدين والدعاة فأروني بلدا عربيا واحدا يستقبل واحدا من علماء المسلمين المخلصين بحفاوة في المطار
كما يستقبلون القس النصراني والراهب،
وأروني داعية مشهورا بالعلم والفضل لقي في مطارات الدول العربية حفاوة بالغة، حتى لوكان مسافرا إلى بلد آخر ورجع إلى بلده فكيف يستقبل؟
وانظروا كيف يضيق على العلماء والدعاة في كثير من البلدان العربية، بل انظروا إلى القوانين
التي تتوالد بسرعة لتنظم ما تسميه الحكومات عمل الدعاة في المساجد! المراقبة بطريقة لا تتم للجواسيس الذين يسرون بأخبار دولتهم إلى الأعداء!
ولقد قرات وسمعت أنه في بعض البدان أقبية تحت الأرض تخص الكنائس مملوءة بالسلاح دون حسيب أورقيب،
فلماذا تشدد وطأة الحكومات على علماء الإسلام ودعاتهم من دون الناس، وفي أحيان يلحقونهم بالمجرمين!!
آن للشعوب أن تفيق وتعرف أن طريق العلم والدين هي طريق الخلاص من كل التبعات التي أذلتنا ذلا لم يشهد تاريخنا الإسلامي مثله،
فعليهم أن يحتووا العلماء والدعاة ويعينوهم على نوائب الدهر، ويعملوا ما استطاعوا ليحولوا بين الحكومات العميلة في تحقيق مآرب الاستعمار.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد
تلك نفثة مصدور على صفحة تملؤها السطور