د. حاتم عبد العظيم يكتب: حكم رذاذ بخاخ الربو للصائم مناقشة فقهية

اطلعت على مقالة كتبها فضيلة الأستاذ الدكتور وليد شاويش في حكم بخاخ الربو للصائم عنونها بعنوان «رذاذ بخاخ الربو الرطب والعدوان الثلاثي على الصوم»
وقد قطع فيها فضيلته بأن بخاخ الربو مفطر، وأنه أولى بالتفطير من دخان السجائر، ورأى أن قياسه على دخان السجائر من قبيل قياس الأولى، وأنه أبلغ في التفطير من ذلك الدخان، وأن قول المفطرين بدخان السجائر دون بخار بخاخ الربو قول فاسد وقياس متناقض إلى آخر ما ردده في مقالته.
وأحب أن اتوقف أمام النقاط الآتية فيما أورده فضيلته
أول ملاحظة أبديها هي ملاحظة فنية في مسألة القياس ذاتها، فقد رأى فضيلته التشابه بين الدخان وبين رذاذ البخاخ من حيث أن كلا منهما داخل إلى الجوف – وفي ذلك نظر سيأتي- أحدهما في صورته البخارية الجافة، والآخر في صورة بخار رطب محمل بالسائل الدوائي، فرأى فضيلته أن البخار المحمل بالسائل الدوائي أولى بالتحريم، فهو يرى أن شتم الوالدين أولى بالتحريم من التأفف ورذاذ الربو الرطب أولى بالفطر من دخان السجائر الجاف كلاهما من باب قياس الأولى؛ لأن العلة في الإفطار في بخاخ الربو أتم وأوضح منها في الدخان؛ إذ إن رذاذ الربو وبُخاره فيه رطوبة زائدة ليست في الدخان، فمَن أفتى بالفطر بالدخان الجاف، لزمه من باب أوْلى أن يحكم بالفطر برذاذ الربو الرطب وبخاره فيما زعمه الباحث الكريم.
وثمة تناقض جلي في كلام الشيخ -حفظه الله- حيث لا وجه للمقارنة أو المقاربة بين المسألتين؛ فسب الأبوين وشتمهما إيذاء أبلغ كثيرا من كلمة أف التي ورد النص بتحريمها فدخل السب في التحريم من باب أولى لزيادته في معنى الإيذاء عن كلمة “أف” المنصوص على حرمتها. فهل هذا التصور يصح في مسألتنا؟ هل رذاذ البخاخ الربوي ودخان السجائر في نفس المعنى والبخاخ أبلغ وأولى بالتفطير من الدخان؟ اللهم لا، بل هما نقيضان؛ فأحدهما دواء تندفع به ضرورة طبية والثاني إدمان يرضي شهوة مزاجية، الأول ظاهر المنفعة والثاني ظاهر المفسدة، الأول مأمور به والثاني منهي عنه، الأول تسكينه في الشريعة في باب الأحكام الاستثنائية التي تقدر بقدرها، والثاني مسلكه في الشريعة في باب المفترات المحرمة أو في باب المحرمات للضرر، فلا قياس بينهما فضلا عن أن يكون قياس أولى، وكما هو معلوم: يمتنع القياس مع وجود الفارق المعتبر، بله الفوارق الجمة التي لا يبقى بعدها للتشابه نوع اعتبار.
بخاخ الربو من الأدوية التي غايتها تقليل أثر المرض وحفظ صحة الإنسان حتى يؤدي وظيفته في الحياة بكفاءة، فكيف يقاس على شيء من المكيفات المحرمة؟ فهل يقاس نافع على ضار أو مباح على محرم؟ وللمفارقة البادية دخان السجائر أحد المسببات الكبرى لمرض الربو فكيف يقاس الداء على الدواء!!
ثم إن فلسفة الصيام قائمة على كف الشهوات فمنع الله شهوة الطعام والشراب وشهوة الفرج زمن الصوم تعزيزا لملكة التقوى وهنا لنا أن نسأل: أي المسألتين ينبغي أن تدخل في حكم الطعام والشراب فتكون من نواقض الصوم؟ ما كان داخلا في معنى الشهوة أم ما كان عريا عن احتمال الشهوة؟
ولا ريب أن الدخان عند مدمنيه شهوة من الشهوات قد تتقدم الطعام والشراب فضلا عن كونه محرما لفداحة ضرره، فهل يدخل بخاخ الربو في دائرة الشهوات التي جاء الصوم ليكفها، وليربي في الإنسان إرادة الامتناع عن السائغ الحلال منها توصلا بذلك إلى ترك الفاسد الضار؟
إن الأولى بالتحريم على الصائم وبنقض الصيام هو ما يهزم الإرادة الإنسانية ويوقع في الحرام وليس ما يوسع مسالك النَفَس ليتمكن الإنسان من الحياة الطبيعية!
وقد دعا فضيلته إلى الخروج من ذلك المأزق بدعوة المضطرين لاستعمال البخاخ إلى الفطر عملا برخصة المرض بيد أن الفقهاء قد جعلوا ضابط المرض الذي يبيح ترك الصيام هو المرض الذي لا يستطيع صاحبه الصوم إلا بمشقة بالغة، كما قال أبو عمر ابن عبد البر: «هذا شيء يؤتمن عليه المسلم فإذا بلغ المريض حالا لا يقدر معها على الصيام أو تيقن زيادة المرض به حتى يخاف عليه جاز الفطر» ( شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 2 / 271) ومريض الربو – غالبا – لا يلحقه من الصوم ضرر طبي يمنعه منه، وصوم القادر على الصوم أولى من فطره، والله تعالى يقول: «وأن تصوموا خير لكم»، والاحتياط في باب العبادة يكون لها لا عليها، يكون بإقامتها لا بهدرها، فلا حكمة في حرمان مئات الملايين من المسلمين من الصوم، لأنهم يحتاجون لبخاخ الفانتولين فنحرمهم من إقامة الشعيرة بناقض موهوم.
كما أن من القواعد الفقهية التي استقر عليها الفقهاء قاعدة: «اليسير مغتفر» وقد أعملها الفقهاء في باب الصوم فلم يروا انتقاض الصوم باستنشاق «غبار الطريق»، و«غربلة الدقيق»، و«دخان الحريق»، و«حبوب اللقاح»، و«ما تحمله الرياح»، وسائر ما لا يُستَطاعُ التحرز منه ممّا يمتزج بالهواء. والسؤال هنا: ألا يسعنا أن نعامل بخاخ الربو معاملة غربلة الدقيق وغبار الطريق؟
لقد كان العقل الفقهي واعيا حين لم يعتبر هذه العوارض ناقضة للصوم -رغم دخولها من الحلق- لكونها داخلة في درجة من الضرورة أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة. فأي القياسين أولى وأوفق قياس بخاخ الربو على غبار الدقيق للمشتغل به كونه حاجة لا غنى عنها أم قياسه على دخان السجائر على ما بينهما من الفوارق السالفة؟
ولو أردنا قياس الأولى في المسألة لقلنا: إن الهواء المحمل بدواء الربو أولى بعدم التفطير من الهواء المحمل بغبار الدقيق؛ إذ الداعي للدواء ضروري والداعي لطحن الدقيق في نهار رمضان حاجي، واعتبار الضروري أولى من اعتبار الحاجي، وهذا ليس بدعا من القياس بل إن الإمام السرخسي قد لفت إليه في نص فقهي نفيس -وبعض نصوص الفقهاء فيها من التوفيق والحمولة الفقهية ما يستوجب التأمل- يقول: «مَن ذاق شيئًا من الأدوية المُرَّة يجد طعمه في حلقه: فهو قياسُ الغبار والدخان» ـ«المبسوط» (3/ 63)
وثمة وجه آخر للمسألة وهو أن رذاذ البخاخ مسلكه في الجسم هو الجهاز التنفسي فينتقل من الفم أو الأنف محمولا مع الهواء إلى القصبة الهوائية فالشعب الهوائية ليقوم بتوسعتها حال تضيقها، ومعلوم أن لسان المزمار يقوم بغلق المريء حين دخول الهواء حتى لا يصل للجهاز الهضمي بل يصل لمقصوده وهو الجهاز التنفسي، ولسان المزمار يشبه إشارات المرور التي توقف السير من جهة لتفتح العبور للجهة الأخرى، فهو يرتفع أثناء التنفس، فيسمح للهواء بالمرور في الحنجرة. أما أثناء البلع، فيُغلق طريق التنفس ما يجعل الطعام يمر إلى المريء، ومن ثم فهو بمثابة الصمام الذي يحول دون عبور الطعام إلى القصبة الهوائية أو عبور الهواء إلى المريء.
والرذاذ يدخل مع الهواء فيدفع به لسان المزمار للجهاز التنفسي لا الهضمي وهذا وحده يرفع الإشكال تماما فالفقهاء يفطرون في باب الطعام والشراب بالواصل إلى الجوف «المعدة» لا بالواصل للرئتين، وإن افترضنا وصول شيء من ذلك الرذاذ للجوف فسيكون بطبيعة الحال يسيرا، بل يسيرا جدا، واليسير مغتفر.
وثمة نص مهم في موضع الخلاف أورده العلاء السمرقندي في تحفته؛ إذ يقول: ” فَأَبُو حنيفَة: اعْتبر ظَاهر الْوُصُول بوصول المغذي إِلَى الْجوف حَقِيقَةً، وهما -أي: الصاحبان-: يعتبران الْوُصُول بالمخارق الْأَصْلِيَّة لَا غير، ويقولان فِي الْمخَارِق الْأَصْلِيَّة: يتَيَقَّن الْوُصُول، فَأَما فِي الْمخَارِق الْعَارِضة: فَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى الْجوف، وَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى مَوضِع آخر لَا إِلَى مَحل الْغذَاء والدواء؛ فَلَا يفْسد الصَّوْم مَعَ الشَّك وَالِاحْتِمَال] «تحفة الفقهاء» (1/ 356). فما كان في وصوله للجوف شك لا يفطر فما بالنا بما لا يصل للجوف يقينا!
وإذا عدنا إلى شبهة القياس الذي عقده الباحث الكريم بين الدخان والبخاخ باعتبار مسلكهما واحدا وهو الجهاز التنفسي قلنا: إن وصف الرطوبة الذي ميز به بينهما ساقط لكونهما لا يصلان للجوف فسقطت فكرة قياس الأولى فكلاهما غير واصل للجوف حتى يكون الرطب أولى بالتفطير من الجاف، وبقي أن طبيعتهما مختلفة والغاية منهما مختلفة وأثرهما مختلف، ومسلك الشريعة أن تفرق بين المفترقات، فدخان السجائر ودخان الحشيش ونحوهما ليس كدخان الطبيخ ولا كدخان البخور ومن باب أولى ليس كالبخار العلاجي وإن كانت جميعها أبخرة وسبيلها في الجسم واحد؛ فدخان السجائر اختياري لا وجه فيه للضرورة، وهو محرم لا يرد عليه احتمال الحِل ورأيي فيه أنه مفطر لا ريب ليس لأنه ذو جرم ولا لأنه ينفذ إلى الجوف فيشبه الطعام والشراب لاتحاد مسلكه وإنما أراه مفطرا لأنه أشبه الطعام والشراب في معناهما وهو قضاء الوطر ودفع الشهوة وهو على الراجح مفتر من المفترات يؤخذ بقصد إحداث أثر التفتير وهو محرم تحريما أصليا فوجب تشديد منعه في الصوم ونقضه به بخلاف أبخرة الدواء، واشتراكهما في المسلك وجه شبه ضعيف ساقط إذا قارناه بما بينهما من فروق جمة تجعلهما طرفي نقيض في المعنى ومن ثم في الحكم
والذي أختتم به مقالتي هذه أن أئمة الفقهاء لو عاشوا زماننا ورأوا ما فيه من انتشار مرض الربو وحاجة الناس إلى رذاذه العلاجي لوسعوا عليهم في استعماله وحفظوا لهم حظهم من الصوم، تلك العبادة التي لا يسهل على المسلم تركها مع الإمكان، كيف وقد ألقى الله محبتها في قلوب العباد؟
كما أن مثل هذه المسائل التي يجتمع فيها النظر الفقهي والنظر الطبي يجب تصورها أولا من المنظور الطبي ثم توزن بناء على ذلك بالموازين الفقهية، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره ومن أخطأ التصور أو التكييف أنى له أن يصيب الحكم الصحيح!