د. حسن سلمان يكتب: سوريا وتحديات التحرير والتعمير
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
في سياق ما عُرف بثورات الربيع العربي، تحرك الشعب السوري في عام 2011م مطالبًا بالحرية والكرامة والعدالة وبناء نظام سياسي راشد يعبر عن هويته واختياره بعيدًا عن النفوذ والسيطرة الطائفية داخليًا أو الهيمنة والوصاية الأجنبية خارجيًا. ولم يكن الطريق ممهَّدًا أمام الثورة الشعبية السلمية لتشق طريقها بسهولة ويسر، بل كان الطريق محفوفًا بالكثير من المخاطر والتحديات، حيث واجه النظام الثورة منذ بدايتها بالعنف المفرط ولم يتسامح معها، ولم يبذل أي جهد لتقديم تنازلات يمكن أن يقبلها الشعب وتحقق قواسم مشتركة بين النظام والثوار لبناء نظام سياسي انتقالي توافقي في لحظة تاريخية لاحت للشعوب لتجديد أنظمتها ومؤسساتها بعيدًا عن الاستبداد والدكتاتورية والقمع.
وقد بدأت الثورة السورية عفوية كغيرها من ثورات الربيع العربي، ومن دون قيادة موحدة أو استراتيجية ورؤية شاملة لمسار الثورة، مما جعلها عرضة للانقسامات والاختراقات، مع استصحاب قلة الخبرة السياسية بسبب تجريف الحياة السياسية في البلاد، مع تدخلات إقليمية ودولية يستهدف غالبها احتواء الثورة وإفشالها من خلال الاقتراب والاحتواء والدعم ثم الإجهاض.
ومن غرائب الثورة السورية اتفاق كافة المحاور المتصارعة الدولية والإقليمية على بقاء نظام الأسد وجعل الساحة السورية مجالًا يتقاسمون فيه النفوذ بالتفاهم، فقد رأينا كيف أن الغرب بكل دوله وتحالفاته الإقليمية يحرص على التحكم في دعم الثورة بالسلاح الذي يمكنها من إحداث فرق في المعادلة العسكرية، وفي ذات الوقت السماح والتوافق مع روسيا وإيران لتكون الجهة التي تحسم المعركة على الأرض من خلال الوجود العسكري المباشر والميليشيات عابرة القارات، والعمل على صناعة الإرهاب الداعشي والسماح له بالتمدد لتحويل مسار ثورة الشعب السوري في الحرية والكرامة إلى حالة إرهاب دولي يتطلب تحالفًا دوليًا في مواجهته، وبذلك التقى الفرقاء والخصوم في تقويض حالة الثورة وألقها وجاذبيتها، وهذه الحالة من التحالف بين القوى المتناقضة إقليميًا ودوليًا ضد الثورة السورية هي ظاهرة معقدة تستند إلى مصالح وأولويات سياسية واستراتيجية وحضارية متشابكة وهواجس كامنة تخشى قيام مشاريع تحررية في الأمة تخرج عن الاستبداد والهيمنة والنفوذ الخارجي في المنطقة، وخاصة في بلاد الشام، حيث قلب القاعدة الصهيوصليبية.
وقد أدت هذه الطريقة في التعامل مع الثورة السورية إلى عملية إعادة تأهيل نظام بشار الأسد واستعادة مقعده في الجامعة العربية ودعوة بشار للقمم العربية، ومحاولة تصوير انتصاره وفشل الثورة وإخراجها من المعادلة عبر استغلال مفاهيم الاستقرار وإعادة الإعمار، وقد بدأت الدول العربية بفتح قنوات دبلوماسية مع النظام في سياق التحضير لمرحلة ما بعد الحرب، فكانت عودة النظام إلى الجامعة العربية ومشاركة القاتل المجرم بشار الأسد في اجتماعات القمة العربية، وفي هذا السياق حدثت الحرب الأوكرانية التي أرهقت العالم وخاصة روسيا التي غرقت في وحلها ودخلت في مواجهة مفتوحة مع الغرب بكل دوله، ثم اندلعت حرب طوفان الأقصى التي أرهقت إيران وحلفاءها وأربكت المشهد العالمي كله، حيث ظهر الغرب عاريًا عن المنظومة القيمية التي كان يتدثر بها وقد شارك بكل قواه في الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وأدى كل ذلك إلى تخلخل في النظام الدولي وقبضته على المنطقة.
وفي ظل هذه المعطيات، كانت الثورة السورية تعمل جاهدة لبناء قدراتها وتطوير آليات عملها وتجاوز خلافاتها البينية وتعزيز تحالفها مع الجارة تركيا، والتي لم يبقَ للثورة السورية حكومة يهمها كثيرًا أمر سوريا سواها، وذلك لعدة اعتبارات ذاتية وموضوعية أدت إلى تلاقي الرؤى و المصالح بين الثوار في سوريا وتركيا المهددة في أمنها القومي وتنامي المخاطر في جنوبها، كان الطريق سالكًا لاتخاذ موقف جاد وجريء لتغيير خطوط العمل ورسم مسارات جديدة، حيث كانت الثمرة قد أينعت وحان قطافها، والكل يتساءل لمن ستكون، كما عبر عن ذلك وزير الخارجية التركي قبل الأحداث.
فكانت اللحظة التاريخية الفارقة التي كانت فيها الإدارة الأمريكية في حالة انتقال، والمحور الإيراني في حالة انهيار، وروسيا في حالة إرهاق، وأوروبا في حالة ارتباك وقلق مما يمكن أن يأتي به الرئيس الأمريكي (ترامب) ورؤيته حول الحرب الأوكرانية والعلاقات مع روسيا، وقبل هذا وذاك، لا بد من التنبيه على أن أي تحليل للأحداث يغيب فيه البعد الغيبي والإرادة الإلهية وتدبير الله تعالى في هذا الكون لن يصل إلى جواب شافٍ لما جرى في الشام، والحديث في ذلك يطول، وقد لا يحتمله المقال، ولكن من يشاهد طبيعة ما جرى ميدانيًا وتأمل كيف تهاوى النظام وجيشه ليسقط خلال أيام معدودات حتى كان محل تساؤل واستغراب لدى الكثير من الخبراء والمراقبين، وربما حتى من كان يتصور بأن خيوط اللعبة في يده وجد الأمور جرت بخلاف ما رُسم لها من منظور بشري، كل ذلك يجعلنا نستحضر الأبعاد الغيبية الإيمانية والتدبير الإلهي، وأنه لا يكون في كون الله ما لا يريد، وأن النصر من الله وحده، ولا غالب إلا الله تعالى.
تحديات التحرير والتعمير:
إن مستقبل سوريا يحمل العديد من التحديات والمخاطر التي قد تعرقل استكمال تحريرها واستقرارها وإعادة بنائها، وهذه التحديات تتنوع بين سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وأمنية، ثقافية… وفيما يلي أبرزها:
1/ تحدي استكمال التحرير:
قبل الحديث عن أي تحدي من تحديات البناء والتعمير لا بد من التأكيد على اهمية استكمال التحرير وذلك ببسط الثوار سلطتهم ونفوذهم على كامل التراب السوري وألا تكون هناك أي سلطة تنازعهم الشرعية داخل الأرضي السورية سواء كانت داخلية أم خارجها وبطبيعة الحال يتطلب ذلك حسم التواجد الأمريكي في شرق سوريا وحمايتها لبعض الفصائل (قسد) وهذا يحتاج لرؤية واضحة وعزيمة قوية ومعرفة تامة بالطرق والأساليب التي يمكن التعامل بها مع هذه الظاهرة المتشابكة والمعقدة بين قوى دولية ومحلية.
كما يتطلب استكمال التحرير حسم الجيوب الكامنة للنظام القديم والتي يمكن أن تتحرك في أي لحظة لتقويض الثورة أو عرقلتها ويتطلب ذلك وعيا أمنيا ويقظة كبيرة بعيدا عن العواطف الجياشة التي تصاحب لحظات النصر والفرح العارم الذي يعيشه الجميع.
ومن أهم ما يتطلبه استكمال التحرير التعامل المسؤول والحذر مع التحركات الصهيونية في الجنوب السوري والتحرك بكل السبل المشروعة لإنهاء حالة الاحتلال وفرض الأمر الواقع لأن الكيان متى ما سيطر على أرض يصعب الخروج عنها.
وعملية استكمال التحرير تبرز أهميتها في أنها الضمان الأساس لوحدة سوريا وعدم تقسيمها جغرافياً أو طائفياً ومانعا للتدخلات الخارجية.
وختاما فإن عملية استكمال التحرير تتطلب إعادة النظر في كافة الاتفاقيات والقواعد العسكرية والتواجد الأجنبي بما يحقق السيادة ويمنع انتقاصها.
2/ تحديات الوحدة الداخلية:
تعد الوحدة الداخلية صمام الأمان لتحقيق الاستقرار وإعادة العمران وتحقيق النهضة وخاصة الواقع السوري فيه من التعدد الطائفي والديني والقومي ما يجعل ذلك تحديا رئيسا يتطلب رؤية تعالج ذلك حتى لا يكون مدخلا للقوى الخارجية والتي تحاول دائما الاستثمار في ملف الأقليات مع تحفظنا على المسمى بطبيعة الحال.
وكذلك يندرج في مسألة الوحدة الداخلية المجموعات والفصائل المسلحة المتعددة وكيفية دمجها في منظومة واحدة تخضع لتوجيه وتنظيم وقرار موحد.
3/ تحديات الأشواق الثورية:
من أهم التحديات التي تحدث بعد نجاح كل ثورة هو ما يمكن تسميته تحديات الأشواق والأحلام ووعود الثورة ومنها حلم العودة والأمن والحرية والكرامة لكثير من أبناء الوطن الذين غابوا طويلا عن ديارهم وأهلهم ويودون أن يروا اهتماما بكل تلك الأشواق وما يترتب على ذلك من قضايا المعاش من سكن وتعليم وصحة وغذاء وكهرباء وماء ومواصلات وبنية تحتية وهذا يشكل عبئا ثقيلا على القيادة الجديدة.
4/ تحديات البناء السياسي:
لعل من أهم التحديات لكل ثورة هو تحدي البناء السياسي وكيفية تقديم نموذج يعبر عن الثورة وتطلعاتها ورؤيتها لكيفية النهضة والتقدم وتحقيق الاستخلاف والعمران، ومن أكبر التحديات في ذلك أن كثير من الناس بما فيهم الثوار هم أسرى لنماذج وافدة تعبر عن ثقافة المحتل الغالب وهويته أكثر مما تعبر عن هوية الشعوب المسلمة، وبالتالي فأول ما سيطرح قضية الهوية والمرجعية وما طبيعة النظام السياسي والمؤسسات التي ستنجم عنه وما مدى تحقيقه لأكبر قدر من المشاركة السياسية المستوعبة لمكونات الشعب والثوار وخطورة النزاع في ذلك هو أن القوى الخارجية المعادية للتحرر تعمل على توظيف هذه النزاعات الداخلية وتستثمر فيها وتغذيها حتى تعطل عجلة التحرر والنهضة.
وأهم ما ينبغي التركيز عليه في ذلك حسم قضايا الهوية والمرجعية ومصادر التشريع وأنها قضايا فوق الدستور وغير خاضعة للمساومة والجدل الحزبي لأن أي شعب يعيش حالة النزاع والصراع في ذلك لن يحرر كسبا تحرريا ولا نهضويا بل يعيش بين جدلية الثورة والثورة المضادة.
ومما ينبغي التنبيه عليه كذلك في تحديات البناء السياسي هو أن مؤسسات الدولة الحديثة وطبيعتها مؤداها هو الاستبداد وهيمنة النخبة وتغول السلطات الفوقية على المجتمع والسير فيها لن ينتج نظاما مغايرا بل هو سير في حلقة مفرغة والخروج من ذلك هو العمل على توسيع مساحات حركة المجتمع وتمكينه انظلاقا من الفلسفة الإسلامية في أن المجتمع هو الأصل والنظام السياسي والحكومي فرع عنه وهذا يعني أن تكون البداية من تأسيس مؤسسات المجتمع الأهلية والمدنية والعلمية والدعوية والوقفية والبحثية والإعلامية والسياسية وغيرها مما يعبر عن بنية مجتمع قوي وعزيز ينتج عنه تمثيلا فوقيا للنظام السياسي بعد ذلك فقوة المجتمع بمؤسساته قوة للنظام السياسي الراشد ويحقق الفاعلية ويمنع الاستبداد والهيمنة ووحدانية التسلط.
ويتطلب بناء النظام السياسي وضع دستور تحدد فيه المعالم الأساسية من حقوق وحريات وحرمات وقيم وحركيات ومنظومات تستوعب كيفية التوازن بين مؤسسات الدولة والمجتمع في سياق تعاوني لا تصارعي.
وخلاصة ما ينبغي العمل عليه في بنية النظام السياسي هو تعزيز دور المجتمع وتقليص دور الدولة وتجنب تضخم دولاب الدولة الذي ينتج عنه عمليا السيطرة والنفوذ والصراع وهيمنة النخبة على مركز السلطة وأدواتها لأنها محل الثروة والسلطة والقرار.
5/ تحديات تحقيق العدالة:
ترك النظام المجرم في سوريا تركة ثقيلة خلال عقود حكمه فيها من الآلام والأحزان والهموم والغموم ما لا يطيقه البشر وقد شاهد العالم أجمع تدمير المدن السورية على ساكنيها واستخدام الأسلحة الممنوعة والمجرمة دوليا وشرد الملايين من الشعب السوري متحالفا من قوى دولية ومليشيات عابرة للقارات مشحونة بحقد طائفي دفين، ورأينا كذلك بعد سقوط النظام الكوارث الكبيرة المتعلقة بالسجون وضحاياها والتي كانت مليئة بالمعتقلين والسجناء والأدهى والأمر هو غياب أعداد كبيرة منهم وكأن النظام قد عمل خلال السنوات الماضية على تصفيتهم وهذا ما ستثبته الأيام القادمة حيث بدأت تظهر المقابر الجماعية التي بها آلاف من الضحايا وبطبيعة الحال فإن هذه الجرائم لن يتم نسيانها أو تجاهلها أو التغافل عنها وما لم يتم وضع آلية واضحة المعالم تجاه تحقيق العدالة والقصاص من المجرمين فإن ذلك سيكون تحديا حقيقيا أمام القيادة الجديدة.
6/ تحديات القوى الخارجية والإقليمية:
عملت القوى الدولية والإقليمية خلال العقد الماضي على تعطيل حركة الشعوب ومنع تحررها وتحقيق أشواقها في الكرامة والعدالة ودفعت الشعوب أثمانا باهظة قتلا وتشريدا وسجنا واعتقالا وقد نتج ما عرف بظاهرة الثورة المضادة وهي اليوم أكثر قلقا مما سبق لأنها في السابق كانت تمتلك مؤسسات الدولة العميقة التي تواطأت مع الخارج لتعطيل الثورة ولكن الثورة السورية تجاوزت كل ذلك وهدمت المعبد على ساكنيه من قوى الطغيان والاستبداد الأسدي فلم يعد هناك ما يسمى دولة عميقة والفرصة متاحة لقوى الثورة من تشكيل مؤسساتها ولكن هذا لا يعني بأن القوى الدولية والإقليمية المعادية للثورات التحررية ستقبل بالواقع وترتضيه وتعمل على قبوله والتعاون معه بل ستعمل بكل سبيل للالتفاف على الثورة والعمل على تطويقها وحصارها والسعي الدؤوب لإفشالها وهذا يشكل تحديا كبيرا مع الاعتراف بخطورة الموقع الجغرافي للشام السورية وحاجة الجميع حاليا لنوع من الضبط والسيطرة وقيام حكومة تحقق ذلك حتى لا تتحول لساحة منفلتة عن القيود الرسمية واستحقاقات الدولة وخطوطها الحمراء.
وختاما:
فإن الثورة السورية أمام مسؤوليات جسيمة تتطلب رؤية واعية وشجاعة، مع التركيز على تعزيز الوحدة الداخلية، واستكمال التحرير، وبناء نظام سياسي يعبر عن تطلعات وهوية الشعب، وتحقيق العدالة، ومواجهة التحديات الخارجية بحكمة وحنكة.