بحوث ودراسات

د. حلمي الفقي يكتب: الغش في الامتحانات يرفع الأغبياء ويخفض الأذكياء

ما رفع الأمم إلى أعلى عليين كالعلم، ما هوى بها إلى أسفل سافلين كالجهل، ولأجل العلم أنزل الله جل جلاله الكتب، وأرسل الرسل، بل لأجل العلم خلق الله عز وجل السماوات والأرض وما فيهن،

تدبر معي قول الحق سبحانه وتعالى:

﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّۖ يَتَنَزَّلُ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنَهُنَّ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عِلۡمَۢا﴾ [الطلاق: 12]

وحسبك هذه الآية دليلا على منزلة العلم في الإسلام، والتى ارتقي بها إلى أرفع من منازل النجوم،

ولهذا كان أول ما نزل من القرآن الكريم الأمر بالقراءة، قال عز وجل:

﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ 2 ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ 3 ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ 4 عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾

[العلق: 1-5]

وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { طلب العلم فريضة على كل مسلم} رواه ابن ماجة وأبو يعلي.

فالتعلم والتعليم فريضة إسلامية، بل هما أول فرائض الإسلام، وهما سبيل التقدم، وطريق التحضر في الدنيا، كما هما سبيل الفوز العظيم يوم الدين.

تسرب الغش إلى التعليم:

التعليم المغشوش يهوى بالأمة إلى ذيل قافلة الأمم، ويصنع أمة متخلفة في سائر مجالات الحياة،

وكل من يساعد على الغش من المعلمين أو المتعلمين أو أولياء الأمور فهو سبب مباشر في صناعة تخلف الأمة، وضياع مستقبلها، وتدمير حضارتها،

ولقد عملت في حقل التعليم في مصر ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان نصفها تقريبا في التعليم قبل الجامعي،

ونصفها الثاني في التعليم الجامعي، وقد رأيت صورا للغش تفوق الحصر، وتبعث الحسرة في النفوس، وتهيج الأشجان في القلوب،

وذاك في مختلف مراحل التعليم قبل الجامعي والجامعي حتى مرحلة الدكتوراه،

بل حتى أبحاث درجة الأستاذية، وبعض وسائل الغش هذه تحتاج إلى عقول متفتحة، وأذهان متوقدة،

بل وتفتقر في بعض الأحيان إلى عصف ذهني لابتكار وسائل جديدة للغش لم تعرف من قبل،

ولو أن الطالب ادخر هذا المجهود الكبير لكان في عداد المتفوقين بجهد خالص وسعى مشكور، لكنها جرثومة الغش التي تسللت إلى ميدان التعليم منذ قديم الزمان، لتدمر الدول، وتبيد الحضارات،

وتغش الأمة في أعز وأغلى ما تملك وهى الثروة البشرية،

فقد نشرت مجلة الرسالة المصرية في العدد 884، والصادر في 12/6/1950م بعض الحوادث المفجعة للغش منها ان طالبا بكلية الطب أطلق الرصاص على لجنة الامتحان،

وفي حادثة أخرى طالب كلية الآداب يعتدي على أستاذ منعه من الغش،

وغير ذلك الكثير مما يندي له الجبين من صور للغش ضاربة في عمق الزمان، قد مضى عليها عقود طوال،

والمؤسف حقا أن وسائل الغش في ميدان التعليم تتنوع وتتطور بشكل مستمر مع مرور الأيام، وتعاقب الأزمان،

ويبتكر الغشاشون من المعلمين والمتعلمين وأولياء الأمور وسائل جديدة للغش كفيلة بصناعة التخلف في كل مجالات الحياة،

وتجعل من العلم سائقا للتخلف بدل أن يكون قائدا للتقدم.

الغش في الامتحانات جريمة وخيانة:

الغش في أي مجال من مجالات الحياة من أكبر المحرمات، وأعظم الزلات، وهو بلا أدنى شك جريمة شرعية وأخلاقية وقانونية وإنسانية،

وأخطر أنواع الغش على الإطلاق هو الغش في الامتحانات، فهو أشدها حرمة، وأعمقها أثرا، وأكثرها خطرا على مستقبل الأمة وحاضرها،

فهو يقدم من حقه التأخر، ويؤخر من حقه التقدم، ويسوى بين الذين يعلمون، والذين لا يعلمون، وحسبك بهذه دمارا للأمم، وتأخيرا للدول، قال تبارك وتعالى:

﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾

[آل عمران: 188]

فإذا كان الغش في غرس الشجر، ورفع الحجر إثما عظيما وذنبا خطيرا، فالغش في بناء البشر، وصناعة الإنسان،

وتزكية الوجدان، أشد حرمة، وأقبح إثما، وأخطر جرما، قال تعالى:

﴿أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ﴾

[ص: 28]

الغش يصنع الموبقات

والغش في الامتحان يصنع الموبقات، ويفجر المهلكات، فهو يجعل الصالح كالطالح، والعالم كالجاهل، والأبرار كالفجار،

وهذه جرائم تذهب بالأمم إلى وهاد التخلف، ومهاوى الردى،

قال جل جلاله:  ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾

[الزمر: 9]

والامتحانات أمانة، والعملية التعليمية برمتها أمانة، والغش خيانة، وما أقبحها من خيانة، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ [النساء: 58]

وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من غشنا فليس منا} رواه مسلم وابن حبان وغيرهما.

فالغشاش أيا كان موقعه قد خالف دين الإسلام مخالفة خطيرة، واقترف واحدا من أعظم الآثام،

ومثله في الإثم كل من عاون على الغش بأي طريقة، وبأي وسيلة، لأن الغش ينتج جاهلا في ثوب عالم،

وقد روت أسماء رضى الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} متفق عليه.

قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: وقوله: «كلابس ثوبي زور» «أي كالذي قال الزور مرتين، وقول الزور من الكبائر»

فالغش والإعانة عليه تزوير وكذب وظلم،

وهذه من أمهات الكبائر، ومن قبائح المحرمات، والغش حرام في كل مجالات الحياة بلا استثناء،

وأشد هذه المجالات حرمة، هو الغش في الامتحانات خاصة وفي التعليم عامة،

لأنه يغش الأمة في أعز وأغلى ما تملك، وهو الإنسان الذى جعله الحق سبحانه وتعالي سيدا لهذا الكون،

وسخر له ما في السماوت، وما في الأرض، قال تعالي:

﴿وَسَخَّرَ لَكمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنّجُومُ مسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ﴾

[النحل: 12]

فالحق سبحانه وتعالي سخر المخلوقات الكبار من الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم لخدمة هذا الإنسان الصغير،

وليس الأمر مقتصرا على ما سبق ذكره في هذه الآية، بل كل ما في السماوات وما في الأرض مسخر لخدم هذا الإنسان الضعيف الظلوم الجهول،

قال تبارك وتعالي: 

﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾

[الجاثية: 13]

وتسخير هذه المخلوقات الكبار لخدمة هؤلاء المردة الصغار دلالة ظاهرة على أن الخالق سبحانه وتعالي جعل الإنسان سيدا لهذا الكون،

فالغش في الامتحانات خاصة وفي مجال التعليم عامة غش في بناء الإنسان الذي جعله الباري سيدا لهذا الكون،

وهذا ما يجعله أخطر أنواع الغش بلا ريب، وأشدها حرمة بلا شك.

الوهم القاتل

تحريم الغش في الامتحانات أمر مجمع عليه بين العلماء، ولم يخالف في ذلك أحد على الإطلاق،

وبالرغم من هذا الوضوح التام، لا يستحى الغشاشون من تسمية الأمور بغير اسمها، ليحلوا ما حرم الله،

فيقولون الغش في الامتحانات ليس حراما لأنه تفريج عن مكروب، وتيسير على معسر،

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومن ستر على أخيه المسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه}

رواه مسلم عن أبي هريرة.

وأقول: هذا كلام ليس من دين الإسلام، والقول بإباحة الغش في الامتحانات يعدل القول بإباحة السرقة، والغصب، والقتل، والخمر،

وهذا تحليل لما حرم الله، وهي أخطر الجرائم في دين الله، وقد تنتهي بالمرء الى الارتداد عن دين الإسلام،

فيكون مصيره جهنم وبئس المصير والعياذ بالله تعالي.

د. حلمي الفقي

أستاذ الفقه والسياسة الشرعية المشارك بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights