د. ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: لماذا قدّم الشكر على الإيمان؟!

جمعني ذات مرّة مجلس فيه بعض الفضلاء من طلبة العلم وأساتذة جامعيين في كلية الشريعة ودار العلوم، ولم يكن أحد يعرفني في المجلس سوى واحدٍ أو اثنين.

وفي المجلس طرح أحد الحاضرين سؤالًا على أستاذ دار العلوم فأجابه بما حضره وأفاض، ثم عقّب أستاذ الشريعة فأضاف وأجاد..

غير إني لم يشف غليلي كل ما تفضّلوا بطرحه كجواب على السؤال، ولكوني أقرأ الوجوه جيدًا فقد قرأت في وجه السائل عدم الاقتناع بما سمع من ردود.. أو هكذا ظننت..

استجمعت قواي واستسمحت الحاضرين في المجلس في التعقيب، فلم أجد أُذنًا صاغية، حتى صاحب السؤال وجدته غير مكترث، تقول عيناه لي: ما عساك أن تضيف أو تعقّب أيّها المتحدّث؟ وله ألف حق؛ فهو لا يعرفني.. فسكتُّ ولم أكمل حديثي، وقلت في نفسي: إن شاء الله في نهاية السهرة أخلُ به دقيقة فأسمعه ما أردتُّ، وفي طريق العودة أتكلّم بما في نفسي مع أساتذتنا الفضلاء.. غير إن كل ذلك لم يحدث لضيق الوقت ولبعض الأمور التي طرأت.

كان سؤال السائل: في قول الله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} لماذا قدّم الله تعالى الشكر على الإيمان في هذه الآية؟

والذي يراه الفقير أن ذلك لأمرين؛ كليهما لم يأت في ردود أساتذتنا الفضلاء.

الأمر الأول: أن الإنسان أول ما يراه من ربه النعم فيشكره شكرًا عامًا مبهمًا؛ ثم يعقل وينظر نظر المتأمل فيؤمن به ويشكره الشكر الخاص؛ فيكون قد سبق الشكرُ الإيمانَ..

الأمر الثاني: أن الشكر نقيض الكفر؛ فالله تعالى يقول عن الإنسان إنه: {إمّا شاكرًا وإمّا كفورًا} ويقول: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} فجعل الشكر نقيض الكفر؛ ومن المنطقي إن يكفر الإنسان بكل ما سوى الله أولا قبل الإيمان به؛ مصداق ذلك في قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} فالتخلية قبل التحلية.

فكأني بربي سبحانه يقول لنا: ما يفعل الله بعذابكم إن كفرتم بما سواي وآمنتم بي.. وهذا هو الترتيب المذكور في قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}..

وأمر ثالث لا أرى له كبير فائدة؛ وهو كون الواو بين الشكر والإيمان -في الآية محل سؤال السائل- لا تفيد ترتيبًا ولا تقديمًا ولا تأخيرًا.. لكن أهل العلم يقولون بذلك أحيانًا بغير إطلاق.

ولم أكن قد استوثقت بشيء من كلام المفسرين وآرائهم فيما ذكرته أعلاه والذي تكلّمت ببعضه في مجلسنا الذي لم أكمل الكلام فيه.

وقد حدث أن قرأت اليوم في صلاة الصبح بالآية الكريمة التي كانت محل سؤال السائل؛ فتذكرت الموقف وقلت في نفسي: لتنظر بعد الصلاة فيما قال المفسرون فيها، فوجدت بعض الإفادات وأن بعضها قريب مما ذكرت وبعضها فيها فوائد جيدة؛ فقلت أنقلها إليكم:

١- قال البغوي رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة: والشكر: ضد الكفر والكفر ستر النعمة، والشكر: إظهارها..

٢- وقال الفخر الرازي رحمه الله: في تقدم الشكر على الإيمان وجهان:

الأول: أنه على التقديم والتأخير، أي: إن آمنتم وشكرتم، لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات.

الثاني: إذا قلنا: الواو لا توجب الترتيب فالسؤال زائل.

الثالث: أن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكرا مجملا، ثم إذا تمم النظر في معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا مفصلا، فكان ذلك الشكر المجمل مقدما على الإيمان، فلهذا قدمه عليه في الذكر.

٣- وقال البيضاوي رحمه الله:

وإنما قدّم الشكر لأن الناظر يدرك النعمة أولًا فيشكر شكرًا مبهمًا، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به.

وكلام البيضاوي رحمه الله هذا هو أقرب كلام بما تكلمت به فيما أسميته (الأمر الأول) من كلامي، وكذا القول الثالث عند الفخر الرازي، ولم أكن قرأته أو كنت قد قرأته قديمًا ونسيته، فالحمد لله.

٤- وقال السعدي رحمه الله:

والشكر هو خضوع القلب واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل الجوارح بطاعته وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه.

٥- وقال طنطاوي رحمه الله في التفسير الوسيط:

وقدم الشكر على الإِيمان، لأن الشكر سبب في الإِيمان، إذ الإِنسان عندما يرى نعم الله، ويتفكر فيها ويقدرها حق قدرها، يسوقه ذلك إلى الإِيمان الحق، فالشكر يؤدى إلى الإِيمان والإِيمان متى رسخ واستقر في القلب ارتفع بصاحبه إلى أسمى ألوان الشكر وأعظمها. فعطف الإِيمان على الشكر من باب عطف المسبب على السبب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights