مقالات

د. سعد مصلوح يكتب: من الحقيبة (10) من فاتحة كتابي «في اللسانيات والنقد: أوراق بينية»

في العام ١٩٦٤ كنت في رَفاقَةِ ثُلّةٍ من نُبَهاء الأصدقاء ونُبغائهم؛ ومنهم محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو ـ عليهما سحائب الرحمة نتلقى دروسا في النقد التطبيقي على شيخنا العظيم محمد غنيمي هلال رحمه الله في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وحين حملتُ إليه نبأ تعييني معيدا في قسم علم اللغة تَغَشّتْ ملامح وجهه الحازم الوقور سمات الأسى، وقال: «مالك أنت ولعلم اللغة! لا أرى لك مستقبلا إلا في مجال النقد». قال ذلك، ثم تركني الشيخ سامدًا مبهوتا يدور رأسي بتوابع الزلزال.

فلما خرجتُ برأسي من غَيابَةِ الجُبّ، استحال السؤال قضية عُمْرٍ، وتاريخًا طويلا تقلبتْ بي الحالُ فيه مِنَ المجاهدة إلى التأمل ومن التأمل إلى المجاهدة، حتى استقام لي أن الإفلات من كُبُولِ المهنية المحدودة إلى آفاق المعارف المتداخلة على جهة التضافر والتآزر هو الوعد الحق المَأْتِيُّ لا محالة، إذا أريدَ لفقه الظواهر أن يقوم على أصوله، وأن النزوع إلى تداخل الاختصاص لا يعني بحال إهدار الاختصاص، ولكنه يعني مزيدا من تَعَقُّلِ الظواهر، والإحاطة بمُوجِبات فَقاهَتها، وانْفِهام ما يتعلق بها ويداخلها ؛ مؤثرًا فيها ومتأثرًا بها.

إن المعرفة اللسانية عامّةً، واللسانية الصوتية المختبرية خاصّة ؛ تلك التي ساقتني إليها المقادير ـ على الكراهة ـ بسَوّاقٍ حُطَمٍ، هما السبيل المُفْضِيَةُ بالنقد إلى التَّنَعُّم بفردوس العلم الإنساني المنتج والمنضبط، وإن الباحث الذي يُحْرَمُ هذه المعرفة إنما مَثَلُهُ كمثل من يُزْمعُ الحجّ إلى عالم النص، وليس معه من آلة الحج إلا التلبية.

د. سعد مصلوح

أستاذ في اللسانيات والنقد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى