بحوث ودراسات

د. طالب الدغيم يكتب: الجحيم السوري.. صرخات الألم في عتمة السجون

لا أدري إن كانت سجون «الغولاغ السوفيتي»، أو «كارانديرو البرازيلي»، أو «كامب 22 كوان لي الكوري الشمالي» أو «لاسابانيتا الفنزويلي» أو «درابشي الصيني» التي عُرفت بسمعتها السيئة عالمياً، تُقارِبُ بشاعة ورعب السجون السورية، حيث تحوّلت سورية إلى معتقل كبير من بداية حكم حافظ الأسد، وفي عهد وريثه بشار الأسد، وضمت أفرع مخابراتهم، عشرات مراكز الاعتقال، وأقبية التعذيب، والمسالخ البشرية، اِرتكبت فيها فظائع مروعة، وانتهاكات فردية وجماعية، وشهدت جرائم لا إنسانية بحق المدنيين الأبرياء، والناشطين السياسيين، والحقوقيين، والصحفيين، والمتظاهرين السلميين، والعسكريين المنشقين، واِمتلأت تلك السجون، بعد الثورة السورية على نظام الأسد في مارس 2011م، وخلالها لم يُفرِّق الأسد ومخابراته، بين الشيوخ والشباب، وبين الرجال والنساء والأطفال، بل مارسوا شتى صنوف التعذيب والقمع والإرهاب والوحشية، دون شفقة أو رحمة.

الغولاغ السوري

 أكثر من 200 ألف سوري بين سجين موجود ومفقود داخل أقبية نظام الأسد، منهم نحو 14 ألف مدني مسجلين، قضوا تحت التعذيب، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وقد نشر الكاتبان جابر بكر (معتقل سوري سابق في صيدنايا عام 2004، وروائي ناشط قانوني)، وأوغور أوميت أنجور (أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة أمستردام، ومعهد (NIOD)، كتاباً بحثياً عنوانه “الغولاغ السوري”، واِقتبسوا اسمه من معسكرات الاعتقال السوفياتية المروعة في عهد لينين وستالين، وفيه كشفا مأساة المعتقلات في ظل حكم الأسدين الأب والابن في سورية.

ولقد نجح الكاتبان بإجراء مقابلات مع أكثر من مئة سجين ناجٍ من جحيم سورية، بالإضافة إلى أمنيين، وحراس وشهود عيان، عملوا في السجون سابقاً وخاصة في صيدنايا. كذلك استند المؤلفان إلى مواد أرشيفية كثيرة، خلصت إلى نتائج صادمة، إذ يقدم المؤلفان أدلة قوية تثبت أن سجون سورية هي من الأسوأ في تاريخ البشرية.

بين التخويف والتعذيب: شهادات من الجحيم:

 التخويف والتعذيب سمتان بارزتان لتعامل النظام السوري مع منتقديه ومعارضيه، وبموجب شهادة أحد السوريين الموجودين في مناطق النظام يقول: “كل الشعب في مناطق الأسد خائف، والكل يعرف أن هذه السجون موجودة…”.

ولقد أخذنا بعض شهادات المعتقلين الذين كُتب لهم حياة جديدة، ومنهم محمد الفارس الذي يُقيم حالياً في ألمانيا، وعمره 33 عاماً، والذي كان موظفاً في المخابرات العامة في دمشق، وفي بداية الأحداث، أخذ يسرّب المعلومات إلى الجيش الحر، مثل إرسال أسماء المعتقلين، ومراكز اعتقالهم، ومواعيد عقد الاجتماعات الهامة، وأوقات الحملات العسكرية الأمنية، وأسماء رجال الشرطة الذين رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين، والذين اعتُقلوا لنفس السبب. وعندما كُشف أمره، اعتقلوه، وحُكم عليه 13 عاماً قضى منها مدة 7 سنوات و7 أشهر، بتهمة “شتم النظام والكشف عن المعلومات لجهات معارضة”. ووصف تجربته في سجن صيدنايا بأنه “الجحيم”، ويقول: ” كانت الزنزانة التي نُقلت إليها مع 8 أشخاص آخرين، عبارة عن مرحاض قياسه 70 سم × 170 سم. وبقينا هناك عراة تماماً لمدة 50 يوماً، كنا مضطرين لأن نركع فوق بعضنا البعض لأن المكان لا يتسع لنا جميعاً. كما ثُبتت أقدامنا في ثقوب حُفرت في جدار الزنزانة، وكانوا يضربوننا على قفا أرجلنا في نوع من التعذيب يعرفه السوريون يسمى “الفَلقة في الإطارات”.

وفي شهادة أخذتها شخصياً من الحقوقي السوري أبو يزن الذي التقيته في كندا، وحدثني عن تجربته الفظيعة في سجن أمن الدولة في مدينة حمص، ومن ثم في الرباعية الأمنية بحمص، وحين سألته كيف حالك اليوم بعد خروجك من 9 سنوات من المعتقل؟، أجاب: “كومة من الإعاقات والأمراض”؛ خرج بعد 8 أشهر من السجن، وحاملاً أمراض السكر والضغط، وأضلاع صدره مكسرة من الركل بالبسطار العسكري. ولخص معاناته في قوله: “السَّجّان في الأفرع الأمنية في سورية، هو مخلوق عديم الإحساس، ويَشعر بمتعة كبيرة في تعذيب المعتقلين، وبمنظر الدماء النازفة من الأجساد المنهكة، وهذا كان حال سجّاني الذي كان ينهال عليّ ضرباً بعد كل سؤال”.

وفي شهادة السجينة بهيرة، وهي إحدى نساء حي جوبر الدمشقي، وعمرها حالياً 55 عاماً، إذ تقول: إنها نُقلت إلى زنزانة مظلمة تعج بالفئران والجرذان، واستجوبت لمدة 10 ساعات، إلا أنها لم تعترف بأي شيء، ومن ثم نُقلت إلى فرع الأمن السياسي بدمشق، وهي مكبلة اليدين، ومعصوبة العينين. ووصفت السجن الذي نُقلت إليه بقولها: “كنا 35 امرأة في غرفة مساحتها لا تتجاوز 2 × 3 أمتار، وكان المرحاض يقع في منتصف الغرفة، دون أيّ خصوصية، وبدا واضحاً آثار التعذيب بشكل سيء للغاية على بعض النساء، أما عن النوم، فكنا نستلقي أرضاً في مناوبات بسبب حجم الغرفة الصغير جداً”.

وتتابع عن تجربتها في سجن عدرا المركزي: كان هناك الكثير من النساء الحوامل اللواتي؛ أنجبن أطفالاً كانوا ينشأون، ويكبرون بين السجينات.

وأما شهادة الحاجة حسنة الحريري، وهي المرأة الدرعاوية الحرّة، ووالدة الشهداء الأربعة الذين قتلهم نظام الأسد، وقد روت شهادتها عن فترتي اعتقالها الأولى عام 2011م، والثانية كانت مع ابنتها عام 2012 لمدة ثلاث سنوات، وتنقلت بين سجون درعا ودمشق. وتقول عن تجربتها في سجن لواء 102: كُنّ نحو 75 فتاة في غرفة لا تتجاوز 3/3، أشبه بمصح عقلي، والأسيرات فقدن عقولهن، وكان هناك سجان يدعى محمد عليا يُعري كل فتاة تدخل السجن، ويغتصبها، وكان من بين الفتيات عدد كبير من اللواتي حملن سفاحاً من هذا المجرم.

سجن صيدنايا: معسكر للموت

 من أكبر السجون السورية، وأفظعها، وأسوئها سمعة، عُرف منذ تشييده عام 1987م، بأنه “سجن عسكري”، ضم آلاف الجنود والضباط المتهمين بمخالفة القوانين العسكرية، لكنه في الواقع كان معتقلاً لمئات من السياسيين السوريين والعرب، أغلبيتهم الساحقة من الإسلاميين. ويقع السجن قرب دير صيدنايا التاريخي (على بعد نحو ثلاثين كيلومتراً شمال العاصمة دمشق)، ويمثل رمزاً لسطوة نظام الأسد بإشراف مخابراته وشرطته العسكرية.

وقد عَبَّرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا في تقرير لها عن بعض ملامح هذا السجن المرعب، ومنها: «غرف الملح»، التي تعتبر بمثابة غرف لحفظ الجثث حتى تتأخر عملية تحللها، على اعتبار أن سجن صيدنايا، يخلو من برادات لحفظ جثث معتقلين، يسقطون بشكل شبه يومي، جراء التعذيب أو ظروف الاعتقال السيئة.

وكشفت الإدارة الأمريكية في مايو 2017م، عن قيام النظام السوري بإعداد “محرقة” لجثث المعتقلين الذين صُفّوا في سجن صيدنايا، وقال ستيوارت جونز (مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط): إنه منذ عام 2013م، عَدّل النظام السوري أحد أبنية سجن صيدنايا، ليصبح قادراً على احتواء ما يُعتقد أنها أفران لحرق الجثث. وأعرب جونز عن اعتقاده، بأنه يجري إعدام حوالي خمسين شخصاً كل يوم في صيدنايا، وأن جثثهم تُحرق للتخلص من رفاتهم دون ترك أدلة، وقد نُقل عن تقرير لمنظمة العفو الدولية، بأن ما بين 5000 و11000 شخص، قُتلوا في سجن صيدنايا وحده بين عامي 2011 و2015م.

وعلى بوابات هذا المعتقل المرعب، وغيره من معتقلات وأقبية المخابرات السورية، يتعرض أهالي المعتقلين لمئات عمليات الابتزاز بهدف معرفة مصير أولادهم وذويهم، وقدر تحقيق لقناة «BBC»، بأن المبالغ المدفوعة من قبل ذوي المعتقلين خلال 10 سنوات لوسطاء وشبيحة من المحامين والضباط وعناصر الأمن عند نظام الأسد، زادت عن 900 مليون دولار أمريكي، وأغلبها كانت بلا جدوى، أو تكون نهايتها تسليم دليل للأهل على أن اِبنهم أو قريبهم، قد مات تحت التعذيب.

شهادة حفّار القبور عن سجون الأسد

 أدلى حفار قبور الذي عمل موظفاً مدنياً في سجن صيدنايا، وكانت مهمته التخلص من الجثث، بشهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في يونيو 2022م، فروى فظائع ارتكبتها قوات النظام السوري، وشاهدها بأم العين. وقد قال: إنه دفن أطفالًا قضوا تحت آلات التعذيب، وإن ثلاث شاحنات كانت تأتي إليه كل أسبوع بمئات الجثث المكدسة، تراوحت أعدادها بين 300 إلى 600 جثة، ومصدرها فروع الأمن والمستشفيات العسكرية.

وتحدث حفار القبور عن أنه دفن سيدة واِبنها الرضيع، لافتًا إلى أن الأم كانت لا تزال ممسكة بصغيرها، بعد أن أُلقيت الجثث في الحفرة لدفنها. ووصلت الفظائع المرتكبة على يد المخابرات إلى حد قتل معتقل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة بين الجثث قبل دفنها، عبر دهسه بإحدى الشاحنات التي يستخدمونها في السجن.

 أدب السجون السورية

شهدت فترة حكم نظام الأسد الأب والابن، أكبر إنتاج لأدب السجون على المستوى العالمي، عكس هذا الإنتاج مآسي القهر والألم والظلم والاستبداد، وكيف نبتت في تربة سورية فطور سامة، وهي: “سجن تدمر، فرع المخابرات 215 في المزة، وسجن صيدنايا، المدينة في دمشق، حلب المركزي … وغيرها العشرات”، وجسدت روايات ودواوين المساجين السابقين ظلام تلك الأماكن، ومنها:

– القوقعة لمصطفى خليفة، وهي من الروايات الأكثر حفراً في الذاكرة، نظراً لما تَصف من ممارسات جلادي الأسد بمعتقليهم.

– خمس دقائق وحسب… تسع سنوات في سجون سورية” للكاتبة السورية هبة دباغ، والتي تروي كيف جاءها زوار الليل ليقولوا لها: بأنها مطلوبة لتحقيق لن يدوم أكثر من خمس دقائق، فاستغرق سجنها في قبو المزة العسكري تسع سنوات متواصلة.

– «فلاسفة في الزنزانة 25» للشاعر أنس الدغيم، والتي تصور للقارئ فلسفة مختلفة في سجون الأسد من العذاب والصبر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى