بحوث ودراسات

د. عبد الآخر حماد يكتب: أمثلة رائدة في الجمع بين العلم وذِروة سَنام الإسلام 

لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقولة جميلة تلخص لنا ما يحفظ هذه الأمة ويكون سبباً في بقائها واستمرارها؛ حيث قال رحمه الله في كلام له حول قول الله تعالى:

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

[الحديد:25].

قال: (ولهذا كان قوام الدين كتاب يهدي وسيف ينصر، وكفى بربك هادياً ونصيراً). [مجموع الفتاوى: 10 / 13]. فبكتاب الله تعالى وما ينبثق منه تتم قاعدة العلم الشرعي ومعرفة ما يريده الله من عباده، وبالسيف يكون الجهاد الذي يحفظ الأمة ويَردُّ عنها غائلة المعتدين.

وقد جاء في نصوص الشرع الحنيف ما يشهد لهذا الارتباط الوثيق بين العلم والجهاد؛ كما في قوله تعالى:

(وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)

[التوبة: 122].

فإن أكثر أهل التفسير -كما ذكر الطبري في تفسيره، وابن القيم في إعلام الموقعين – على أن المقصود من الآية الكريمة أن تنفر طائفة من المؤمنين للجهاد في سبيل الله، وتبقى طائفة لتتفقه في الدين، حتى إذا رجعت الطائفة المجاهدة أعلمَتْها الطائفة المتفقهة بما نزل من الوحي بعد خروجهم.

وفي هذا من الارتباط الوثيق بين العلم والجهاد ما لا يخفى؛ وأن الله تعالى قد: (نوَّع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين: أحدهما نفير الجهاد والثاني التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين؛ وهم الأمراء والعلماء: أهل الجهاد وأهل العلم)،

كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (2/ 252).

ولا تزال الأمة بخير ما وُجد فيها هذان الركنان، وقام فيها من يحيي آثارَهما. فإذا اجتمع الركنان في طائفة واحدة أو شخص واحد كان ذلك هو المحل الأعلى والغاية العظمى، وذلك كأن يكون العلماء مجاهدين بأنفسهم، أو أن يكون الأمراء المجاهدون من أهل الفقه في الدين.

وذلك اقتداءً بسيد الأولين والآخرين، فقد كان صلى الله عليه وسلم أعلمَ الناس، وهو أيضاً أعظم الناس جهاداً بيده وبلسانه.

وقد اقتدى به أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ فكانوا أعمق الناس علماً بعد الأنبياء، وهم أيضاً أعظم الناس جهاداً في سبيل الله. وعلى دربهم حفظ لنا التاريخ سيرَ رجال كرامٍ من أمة الإسلام، جمعوا بين العلم والجهاد، وهاكم نماذجَ سريعةً منهم:

1- فمنهم الإمام الزاهد عبد الله بن المبارك عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته، الذي أفنى حياته المباركة ما بين طلبٍ للعلم وخروجٍ للجهاد، قال محمد بن الفضيل بن عياض: (رأيت ابن المبارك في النوم فقلت أي العمل أفضل؟ قال الأمر الذي كنتُ فيه. قلت الرباط والجهاد؟ قال: نعم. قلت: فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة).

[سير أعلام النبلاء (8 /378)].

2- ومنهم أسد بن الفرات قاضي القيروان وصاحب الأسدية في فقه المالكية وأحد رواة الموطأ عن مالك رحمه الله، وقد خرج رحمه الله أميراً على الغزاة لفتح صقلية وهو شيخ قد نيَّف على السبعين، قال بعضهم: لقد رأيت أسداً وبيده اللواء يقرأ سورة يس ثم حمل بالجيش فهزم العدو ورأيت الدم، وقد سال على قناة اللواء وعلى ذراعه، وما زال رحمه الله مرابطاً مجاهداً حتى وافته المنية وهو محاصِرٌ سرقوسية.

[سير أعلام النبلاء (10/225)].

3- ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قضي حياته في طلب العلم ومحاربة أهل البدع والمنكرات، لكن لم يشغله ذلك عن الجهاد في سبيل الله، فإنه رحمه الله لم يكتفِ بالتحريض على الجهاد، بل قاتل بنفسه أعداء الله من التتار.

4- ومنهم البطل المجاهد نور الدين محمود زنكي صاحب المواقع المشهودة في محاربة الصليبيين، وقد كان كما ذكر ابن كثير فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان رحمه الله عاملاً بعلمه متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دَقَّ وجَلَّ، فقد كان رحمه الله هو وجنوده يربطون السيوف في أوساطهم، فلما قرئ عليه جزء فيه: ( فخرج رسول صلى الله عليه وسلم متقلداً سيفه ) ،أمر جنده على الفور أن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها ،ثم خرج في اليوم التالي متقلداً سيفه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

[البداية والنهاية (12/299) وما بعدها].

5- وكذلك كان تلميذه صلاح الدين الأيوبي بطل حطين ومحرر المسجد الأقصى من الصليبيين، فقد قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 6): (وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى إنه سمع في بعض مصافه جزءاً، وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثاً).

6- وفي العصر الحديث رأينا أمثلةً فذة في الجمع بين العلم والجهاد، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: العالم الشهيد عز الدين القسام الذي جاهد الفرنسيين في سوريا حتى حكموا عليه بالإعدام، فتوجه إلى أرض فلسطين، فجاهد الإنجليز وأشياعهم إلى أن أكرمه الله بالشهادة في عام 1935.

ومنهم الشهيد محمد فرغلي الواعظ الأزهري الذي قاد متطوعي الإخوان في حرب فلسطين عام 1948، ثم جاهد البريطانيين في منطقة القناة عام 1951 ثم حكم عليه بالإعدام في قضية 1954م.

ومنهم الشيخ عبد الله عزام شيخ المجاهدين العرب في أفغانستان والذي لقي الله شهيداً في عام 1989م.

ومنهم الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس الذي لم تمنعه إعاقته الشديدة من تأسيس أول فصيل إسلامي مقاوم للعدو على أرض فلسطين المباركة، وظل شوكة في حلق المحتلين إلى أن أكرمه الله بالشهادة في عام 2004..

ومنهم شيخنا الدكتور عمر عبد الرحمن الذي لم يمنعه فقدُ بصرٍه من القيام بعبودية الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان في داخل مصر وخارجها محرضاً على الجهاد داعياً إليه.

وكان رحمه الله يتردد على المجاهدين الأفغان أيام جهادهم السوفييت والشيوعيين، فيزورهم في مواقعهم وجبهات قتالهم، بل إنه في إحدى المرات أبى إلا أن يجاهد بيده، فمكَّنه الإخوة في إحدى الجبهات من ذلك، حيث أطلق قذيفةَ تجاه مواقع الشيوعيين، وذلك بعد أن جُهز له مدفع «زوكياك»، فضغط بقدمه على الموضع الذي يُضغط عليه لإطلاق القذيفة.

وما زال رحمه الله ثابتاً على الحق إلى أن توفاه الله تعالى عام 2017م صابراً محتسباً في سجون الأمريكان ،بعد أن قضى فيها قرابة ربع قرن من الزمن . رحمة الله عليه وعلى أمواتنا أجمعين.

أ.د. عبد الآخر حماد

15/ 6/ 1445هـ- 28/ 12/ 2023م

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى