د. عبد الآخر حماد يكتب: حول أُميِّة النبي ﷺ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فقد انتشر على مواقع التواصل منشور يشكك في أمية النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يزعم ذلك المنشور أن ما يتعلمه التلاميذ في المدارس من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف القراءة والكتابة هو خطأ فادح، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما وصف بالأمي، لأنه من أهل مكة، ومكة هي ﺃﻡ ﺍﻟﻘﺮﻯ، فهو صلى الله عليه وسلم أمي ﻧﺴﺒﺔً إلى أﻡ ﺍﻟﻘﺮى.
وينسب المنشور ذلك إلى من يصفه بأنه عالم جليل (دون أن يسميه). وينقل عن ذلك العالم أنه قال: (كذبوا عليكم، كيف والله يقول في محكم كتابه: «هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ»، فكيف كان يعلمهم ﻣﺎ ﻻ ﻳﺤﺴﻦ؟ ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﻘﺮﺃ ﻭﻳﻜﺘﺐ ﺑﺜﻼثة ﻭﺳﺒﻌﻴﻦ ﻟﺴﺎﻧﺎً…) إلخ ما ورد بذلك المنشور.
وللأسف الشديد فقد تلقف كثير من البسطاء هذا المنشور، وصاروا يعيدون نشره وإرساله لغيرهم؛ ظناً منهم أن ذلك يرفع من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم لا يدرون أنه قد يكون وراء مثل تلك المنشورات مَن يحاول تشكيك المسلمين في دينهم والطعن في صدق نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا ثبت أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يحسن القراءة والكتابة، فما المانع أن يكون قد قرأ هذا الذي جاء به في كتب الأولين، ثم زعم أنه وحي من رب العالمين؟!
والحق أن هذا الذي ذُكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة هو قول باطل لا يصح. وقد دلت النصوص القطعية من كتاب الله وسنة رسوله على أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً، بمعنى أنه كان لا يكتب ولا يقرأ ما هو مكتوب. وأن ذلك من معجزاته ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك كما في قوله تعالى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ). [العنكبوت: 48]، أي أنَّ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لأنه لو كان يعرف القراءة والكتابة، لوجد المبطلون طريقاً إلى التشكيك في رسالته بادعاء أنه هذا الذي جاء به إنما هو أشياء قرأها في كتب الأقدمين. وقد نقل البغوي في تفسيره (3/ 563) عن قتادة أنه قال: (يعني لو كنت تقرأ أو تكتب قبل الوحي لشك المبطلون المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنه يقرؤه من كتب الأولين وينسخه منها). وقال القرطبي عند تفسير هذه الآية من تفسيره (13/ 282): (فلو كنت ممن يقرأ كتاباً ويخط حروفاً لارتاب المبطلون، أي من أهل الكتاب وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به). وقال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية (3/ 418): (أي: قد لبثت في قومك يا محمد، ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عمراً، لا تقرأ كتاباً ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك، وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب. وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر…» الآية).
ومن الأدلة أيضاً ما ثبت في السنة الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، ومَرَّةً ثَلَاثِينَ). [أخرجه البخاري (1913) ومسلم (1080) من حديث ابن عمر]. ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قد فسَّر الأمية بأنها عدم معرفة الكتابة والحساب، ووصَفَ أمتَه بأنها أمية بهذا المعنى، وقوله (إنا أمة…) يعني أنه هو نفسه أميٌّ من تلك الأُمة الأمية، ولو كان يقرأ ويكتب، لقال مثلاً: (إن أمتي أمة أمية)، فهل بعد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أنه أمي بمعنى أنه لا يكتب يبقى كلام لأحد؟
أما القول بأنه كان يقرأ ويكتب بثلاثة وسبعين لساناً فهو كلام مرسل، لم نجده في شيء من كتب السنة الصحيحة، فلا يعول عليه.
وأما الاستدلال بقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم….)، وقولهم: كيف يعلمهم ما لا يحسن؟ فجوابه أن الآية لم تذكر أنه صلى الله عليه وسلم يعلمهم القراءة والكتابة، وإنما قالت: (ويعلمهم الكتاب والحكمة). وهو قد تلقى الكتاب والحكمة عن طريق الوحي لا عن طريق القراءة والكتابة.
هذا وقد وجدت في تراث العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله ردوداً قوية على مثل تلك الافتراءات، وذلك في تعليقه على دائرة المعارف الإسلامية التي كتبها بعض المستشرقين؛ حيث ورد فيها تحت مادة أمي (2/ 643 وما بعدها) أنه ليس معنى نعت النبي بالأمي أنه لا يعرف القراءة والكتابة، وإنما وصف صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه من العرب الذين سموا بالأميين، لعدم معرفتهم بالكتب المنزلة، أو لأنهم وثنيون، وأن تلك التسمية ربما كان واضعوها هم اليهود، فمحمد صلى الله عليه وسلم كان أمياً بمعنى أنه واحد من هؤلاء الأميين.
وقد عقب الشيخ شاكر على ذلك مبينا عدم صحة هذا الزعم، ومما جاء في رده بعد أن ذكر الأدلة من القرآن والسنة على بطلان كلامهم: (..وبذلك يظهر بطلان ما ادعاه كاتب المقال من أن إطلاق كلمة «أمي» على النبي ليس راجعًا إلى أنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وهو لا يريد بذلك إلا الإشارة إلى ما يدعيه كثير من المغرضين من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارئًا؛ ليصلوا بذلك إلى ادعاء أنه اقتبس دينه وكتابه من الأديان السابقة والكتب المتقدمة، وهذه دعوى تنافي كل ما ثبت بالتواتر القاطع من التاريخ الإسلامي، ولا تقوى على الثبات أمام أي سند تاريخي صحيح، وأظهر ما في ذلك لكل ناظر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكى عن ربه أنه وصفه بصفة واضحة بينة هي أنه «أمي» ثم أوضح هذه الصفة بأجلى بيان: أنه ما كان يتلو قبل هذا القرآن شيئًا من الكتاب، ولا يحفظ منه شيئًا، وقد عاش في قومه إلى حين نزول هذه الآية -آية العنكبوت- نحو خمسين سنة، وهم يعرفونه ويعرفون أحواله وأخباره، لا يخفى عليهم منها شيء، وهم في قرية صغيرة، أهلها محصورون معروفون غير متكاثرين… فلو كان قومه يعلمون عنه معرفة شيء من القراءة والكتابة لكان لهم السبيل إلى نفي قوله، ولقامت عليه حجتهم واضحة ظاهرة).
ثم إني من باب الأمانة العلمية لا بد أن أشير إلى أن القول بأن «الأمي» هو نسبةٌ إلى أم القرى، هو أحد الأقوال في هذه النسبة كما ذكر ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز (6/ 101).
ولكن هذا القول بفرض صحته، فإنه لا يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن القراءة والكتابة؛ وذلك لأن كونه كان أمياً بمعنى أنه لم يكن يحسن الكتابة ثابت بمثل ما أشرنا إليه من نصوص القرآن والسنة، فيكون أمياً بكلا المعنيين.
كما أنه من المناسب أن نشير إلى أن البعض قد ذهب إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد تعلم الكتابة بعد بعثته، ولكنه قول ضعيف مرجوح.
وممن أشار إلى ضعفه الإمام ابن كثير حيث قال في تتمة كلامه الذي نقلناه قبل قليل: (وهكذا كان، صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم القيامة، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده، بل كان له كُتَّابٌ يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم.
وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت عليه السلام حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له). ومع ذلك فحتى على هذا القول الضعيف لا يستقيم ما جاء في هذا المنشور؛ لأن غاية ما فيه أنه تعلم الكتابة بعد النبوة، لا كما يزعمه أصحاب هذا المنشور من أنه كاتباً من أول أمره، فضلاً عن أنه كان يقرأ ويكتب بثلاثة وسبعين لساناً.
ثم إني بعد كتابة ما سبق وقفت على ما يفيد أنه ربما كانت وراء هذا المنشور ونشره أيادٍ شيعية، وذلك لأني قد وجدت هذا المنشور بنصه تقريباً في بعض كتبهم معزواً إلى محمد الباقر بن علي بن الحسين رضي الله عنه.
فمن ذلك ما جاء في بحار الأنوار للمجلسي (16/ 132): أن أبا جعفر محمد الباقر سئل عن سبب تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي فقال: ما تقول الناس؟ قلت: يزعمون أنه إنما سمي الأمي لأنه لم يحسن أن يكتب، فقال عليه السلام: كذبوا عليهم لعنة الله، أنَّى ذلك، والله يقول في محكم كتابه: «هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة». فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن؟
ثم ذكر مثلما جاء بالمنشور المشار إليه.. ونحن لا نثق في مثل تلك المرويات، ولا ندري مدى صحة نسبتها لمحمد الباقر رحمه الله.
وبفرض صحتها فإنها مردودة لمخالفتها لما ذكرناه من النصوص القطعية من القرآن والسنة، فضلاً عن أني وجدت في نفس الكتاب المشار إليه ما يخالف هذا الذي رووه عن محمد الباقر، ووجدت لهم في ذلك تأويلات وتفصيلات لا أرى داعياً للخوض فيها؛ إذ قد أغنانا الله تعالى عن ذلك كله بما ثبت يقيناً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما ذكرناه آنفاً.. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.