د. عبد الآخر حماد يكتب: عودٌ إلى محاورة الكسائي مع أبي يوسف حول تعليق الطلاق
كتبت مؤخرًا مقالاً بعنوان: «فقه بنكهة النحو»، تعرضت فيه لواقعة حدثت بين الكسائي والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، في مجلس الخليفة هارون الرشيد، نقلتها عن الموافقات للشاطبي (1/ 50)،
وخلاصتها أن الكسائي قد ألقى على أبي يوسف مسألة في الفقه، وخطَّأه في جوابه (مع أنه لم يكن في الفقه كأبي يوسف،
وإن كان رأساً في اللغة، عالماً بالقراءات).
فقد قال الكسائي لأبي يوسف: يا أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته: أنتِ طالق أنْ دخلْتِ الدار (ففتح الهمزة ولم يكسرها).
فقال أبو يوسف: إذا دخلتْ طلقتْ.
أخطأت يا أبا يوسف
قال: أخطأت يا أبا يوسف. فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال أن فقد وجب الفعل، ووقع الطلاق، وإنْ قال إنْ فلم يجب،
ولم يقع الطلاق ( أي لم يقع إلا إذا دخلَت المرأة الدار). قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي.
وكنت أظن أن ما قصده الكسائي من التفرقة بين «أنْ» و«إنْ» واضح لا يحتاج إلى بيان،
لكني فوجئت ببعض الأحباب يرسلون لي ذاكرين أنهم لم يفهموا هذه الجزئية،
فلذا أحببت أن أعود اليوم إليها لبيان ما قصده الكسائي، وأقره عليه الخليفة والقاضي أبو يوسف،
فأقول: إنَّ كلامه رحمه الله مبني على التفرقة بين «إن» بكسر الهمزة، و«أن» بفتحها.
فالتي بالكسر شرطية، فيكون معنى قول القائل: (أنتِ طالق إنْ دخلت الدار): إذا دخلتِ الدار فأنتِ طالق،
وإذا لم تدخلي لم تطلقي، فالكلام متعلق بالمستقبل، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالطلاق المعلق.
وأما ” أن” التي بالفتح، فهي مصدرية، تؤول وما بعدها بالمصدر الصريح،
فيكون معنى قول القائل: (أنتِ طالق أنْ دخلت الدار): أنتِ طالق لدخولك الدار.
فالكلام ليس متعلقاً بالمستقبل، وإنما هو متعلق بفعل ماضٍ، وهو أنها قد دخلت الدار بالفعل.
وبهذا يكون قد طلَّقها، معللاً ذلك بأنها قد دخلت الدار. ونظير هذا من القرآن الكريم قوله تعالى: (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ…). [الممتحنة:1]،
فمعنى قوله تعالى: (أن تؤمنوا بالله ربكم)،أي لإيمانكم بالله ربكم، أي أن سبب إخراجهم لكم هو أنكم آمنتم بربكم.
قال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: «أن تؤمنوا بالله ربكم»: (أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين).
ومثله قوله تعالى: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ﴾ [الزخرف: 5]،
فإن معنى «أن كنتم قوماً مسرفين»، أي لكونكم قوماً مسرفين، لذا قال البغوي في تفسير هذه الآية:
(ومعناه: أفنترك عنكم الوحي ونمسك عن إنزال القرآن فلا نأمركم ولا ننهاكم، من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ استفهام بمعنى الإنكار….).
إضافة فقهية:
كلام أبي يوسف رحمه الله مبني على أن الطلاق المعلق على شرطٍ يقع بوقوع ذلك الشرط دون نظر إلى نية المطلق، وهو قول جمهور أهل العلم، وعليه المذاهب الأربعة،
ودليلهم كما ذكر الشيخ ابن عثيمين في الشرح المممتع (13/ 125) عموم حديث: (الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ).
[أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (2274)، وأبو داود (3594) من حديث أبي هريرة، والترمذي (1352) من حديث عمرو بن عوف المزني،
وقال حسن صحيح. وصححه الألباني بمجموع طرقه في إرواء الغليل (5 / 145)].
واستندوا كذلك إلى بعض آثارٍ عن الصحابة رضوان الله عليهم. وهذا القول هو الذي كان معمولاً به في المحاكم الشرعية في مصر إلى سنة 1929م، ثم عُدِّل القانون كما سيأتي.
وفي مقابل هذا القول يرى ابن حزم عدم وقوع الطلاق المعلق بالكلية، حتى لو كانت نية صاحبه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط، كذا في المحلى (10/ 213)،
حيث ذكر رحمه الله أن من قال: “إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق”، أو ذكر وقتاً ما؟ فإن زوجته لا تكون طالقاً، لا الآن، ولا إذا جاء رأس الشهر.
واحتج بأن وقوع الطلاق المعلق لم يأت به قرآن ولا سنة، فلا يقع بحال. وبرأي ابن حزم هذا أخذ الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في كتابه: (نظام الطلاق في الإسلام ص: 82).
التفرقة بين حالتين
وفي المسألة قول ثالث يقول به شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وهو التفرقة بين حالتين:
الأولى: حالة أن يكون تعليقه الطلاق شرطاً محضاً فيقع به الطلاق بكل حال، مثل أن يقول: «إذا غربت الشمس فأنت طالق»، فإذا غربت طلقت؛ لأنه علقه على شرط محض.
والحالة الثانية: أن يكون الكلام محتملاً لأن يكون شرطاً، أو أن يكون قصده مجرد التهديد أو الحمل على فعل شيء أو تركه ونحو ذلك،
فالحكم هنا يرجع إلى نيته. مثل أن يقول لزوجته: «إن خرجت من البيت فأنت طالق»، فإن كان يقصد إيقاع الطلاق بخروجها فإنها إذا خرجت يقع الطلاق.
وأما إذا كان لا يقصد الطلاق، وإنما أراد منعها من الخروج، فعلق طلاقها على خروجها تهديداً لها، فإنها إذا خرجت لا تطلق. ولكن يكون عليه كفارة يمين.
وقد أوضح ذلك ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (33/ 46 وما بعدها)، مستدلاً في تلك التفرقة بآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وكذا فعل ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 73، وما بعدها).
وهذا القول هو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع (13/ 125)، وهو ما كان يفتي به الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى.
وبنحو رأي ابن تيمية أخذ القانون المصري رقم 25 لسنة 1929م كما أشرنا،
حيث نص في مادته الثانية على أنه: (لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه لا غير…).
وعلى وفق هذا النص من النظر إلى نية الزوج وقصده، استقرت الفتوى في الأزهر، منذ صدور ذلك القانون، وهو الذي نرجحه والله أعلم.