بحوث ودراسات

د. عبد الآخر حماد يكتب: نزعة الإصلاح الديني في أدب حافظ إبراهيم

ذكرتُ مراراً أننا قد نعثر في تراث بعض كُتَّابنا وأدبائنا -ممن لا يُعلم عنهم التخصص الشرعي- على كلمات مضيئة، ومواقف طيبة في نصرة الدين وتصحيح المعتقد، وأنه ينبغي نشر تلك المواقف والإشادة بها؛ لأنا كثيراً ما نجد فيها من الفهم الناضج والمعرفة بصحيح الدين، ما لا نجده عند كثير من المنتسبين للعلم الشرعي.

من ذلك ما وجدتُه في بعض تراث شاعر النيل حافظ إبراهيم (ت: 1932م)، الذي عرفه الناس شاعراً مُجيداً جزل الألفاظ قوي المعانى، انتهت إليه مع شوقي رياسة الشعر العربي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

وقد نظم حافظ الشعر في أغراض متعددة: منها الديني والسياسي والاجتماعي وغير ذلك. غير أن ما نريد أن نقف عنده اليوم هو أن حافظاً كانت له نظرات مهمة في الإصلاح الديني، نلمح فيها دعوةً واضحةً إلى الرجوع إلى عقيدة الإسلام الأولى؛ وتنقية الدين الحنيف مما علق به من البدع والخرافات التي ألصقت به وليست منه.

ومن ذلك إنكاره على أصحاب الموالد إتيانَهم قبورَ الموتى ممن يعتقدون فيهم الولاية والصلاح، فينذرون لهم النذور، ويطوفون بتلك القبور متمسحين بها، طالبين من أهلها قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مما دلت نصوص الشرع الحنيف على أنه لا يجوز طلبه إلا من الله وحده. وفي ذلك يقول حافظ كما في ديوانه (ص: 93 ط مكتبة الآداب):

أَحياؤُنا لا يُرزَقونَ بِدِرهَمٍ::: وَبِأَلفِ أَلفٍ تُرزَقُ الأَمواتُ

مَن لي بِحَظِّ النائِمينَ بِحُفرَةٍ::: قامَت عَلى أَحجارِها الصَلَواتُ

يَسعى الأَنامُ لَها وَيَجري حَولَها::: بَحرُ النُذورِ وَتُقرَأُ الآياتُ

وَيُقالُ هَذا القُطبُ بابُ المُصطَفي::: وَوَسيلَةٌ تُقضى بِها الحاجاتُ

ثم إنه لم يكتف في دعوته تلك بالكتابة الشعرية، بل ضمَّن كتاباته النثرية شيئاً كثيراً من ذلك. ومن ذلك ما وجدته في كتابٍ له عنوانه: (ليالي سطيح)، وهو كتاب أشبه بكتب المقامات التي هي عبارة عن حكايات قصيرة، بطلها شخص واحد، يرويها عنه راوٍ معيّن، ويغلب على أسلوبها السجع والبديع، وتنتهي كل حكاية منها بموعظة أو طُرفة أو عِبرة.

وفي هذا الكتاب يتخيل حافظ أنه التقي لعدةِ ليالٍ بكاهن من كهان الجاهلية يدعى (سطيحاً)، وأنه كان في كل ليلةٍ يحاوره في موضوع أو موضوعات تتعلق بالواقع الذي كانت تعيشه البلاد في الفترة التي كتب فيها ذلك الكتاب، وهي أوائل القرن العشرين.

وفيه مما يتعلق بموضوعنا ما ذكره في الليلة الرابعة من تلك الليالي؛حيث تخيل أنه استمع إلى شخصين يمثلان عامة المصريين، وهما يتحدثان عن السعادة، فيُجري على لسانيهما ما يفهمانه من معنى السعادة، وكأنه يريد أن يوضح لنا طريقة التفكير الخاطئة عند كثير من الناس، وأن كلَّ همهم هو تحصيل المال حتى لو كان ذلك بطرق مخالفة للشرع الحنيف، فيذكر أن من ذلك ما يفعله كثير من أرباب الطرق الصوفية من أكلهم أموال الناس بالباطل؛ حيث يجري على لسان أحدهما أن: (السعادة كل السعادة في شياخة السجادة -يقصد شياخة إحدى الطرق الصوفية-، وأن أسعد الناس حالاً، وأرخاهم بالاً جالس فوقها؛ يجري رزقه من تحتها، فهي الجنة التي تجري من تحتها أنهار النذور، والكنز الذي لا تفنى ذخائره أمدَ الدهور. وأسعدُ من هذا الحي ميت يسخر له الله من يبني على قبره قبةً عاليةً، ثم يدعو الناس إلى التبرك بتلك العظام البالية، فتجيء سعادته في مماته على قدر شقائه في حياته، وتطير بذكر كراماته الأنباء، وتحسده على تلك النعمة الأحياء، حتى يقول في ذلك قائلهم: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم…) إلخ الأبيات التي ذكرناها قبل قليل.

ثم يُجري على لسان الشخص الثاني تعريفاً آخر للسعادة لا يقل في تهكمه عن التعريف الأول وذلك حيث يقول: (ألم تعلم -وفقك الله- أن السعادةَ كلَّ السعادة في الوصاية على اليتيم، وفي النظارة على وقف حُبس على العظم الرميم؛ يأكل الأول ما شاء ولا محاسبة، ويلتهم الثاني ما أراد ولا مراقبة…) ثم يعرِّج على بدعة ما يسمى بـ«الزار» الذي تفعله بعض النساء فيقول: (ولكن أتعرف السعيدةَ من النساء كما عرَفتَ السعيد من الرجال؟ قال: السعيدة من النساء من سهلت لها الأقدار، فأصبحت تدعى شيخةَ الزار؛ فهي تملأ يديها ذهباً، وبيتها نشباً- أي مالاً-، وترفل في الحرائر – يقصد ملابس الحرير- من هِبات الحرائر – يقصد حرائر النساء -، ورأس مالها في تلك التجارة رقيةٌ بأسماء بعض العفاريت الطيارة. تدخل على المقصورات في القصور، والمخدورات في الخدور، فتفتق بطبلها طبل آذانهن، وتهز بأسماء الجن نواعم أبدانهن، وتعمي بدخان البخور نجل أعينهن، حتى إذا امتلكت منهن الوجدان، وصار لها عليهن أي سلطان، حكمت فيهن حكم المنوِّم البارع على النائم الخاضع…).

[ليالي سطيح ص: 55- 56.ط الهيئة العامة للكتاب].

وبعد: فإنَّ من الحق علينا أن نشير إلى أن حافظاً قد تأثر في توجهه هذا، بنهج الشيخ محمد عبده، الذي كان حافظ يَعُد نفسَه تلميذاً من تلاميذه المقربين. فإن مما يذكر للشيخ محمد عبده ومدرسته الاهتمام بمحاربة انحرافات الصوفية، وتقديسهم للأضرحة والقبور، وله في ذلك فتاوى مشهورة، وكلماتٌ مأثورة، برغم ما قد يوجد في منهجه من نقصٍ في جوانبَ أخرَ لا مجال لإثارتها الآن.

وقد كان حافظ من أشد الناس إعجاباً بالشيخ محمد عبده، وكان يصفه بأنه حكيم الشرق، وقد مدحه في كثير من شعره، ومن ذلك قوله من قصيدةٍ يهنئه فيها بعودته من الجزائر:

يا أمينا على الحقيقة والإفـ::: تاء والشرع والهدى والكتاب

أنت نعم الإمام في موطن الرأ::: ي ونعم الإمام في المحراب

ولما توفي الشيخ محمد عبده رثاه حافظ بقصيدة طويلة مطلعها:

سَلامٌ عَلى الإِسلامِ بَعدَ مُحَمَّدٍ::: سَلامٌ عَلى أَيّامِهِ النَضِراتِ

عَلى الدينِ وَالدُنيا عَلى العِلمِ وَالحِجا::: عَلى البِرِّ وَالتَقوى عَلى الحَسَناتِ

وقد رأيناه في كتاب «ليالي سطيح» كثيراً ما يعرج على ذكر محمد عبده ودعوته الإصلاحية وذلك مثل قوله في ص: 78: (ولما سكنت أنفاس الأفغاني بعد أن تجددت بذكره الأنفاس، خلفه حكيم الشرق في دولته، ووطّن نفسه على المضي في طريقته، فأسمع الناس في الحق وأسمعوه، وأخافوه في ذات الإله وخافوه، ولم يزل بهم حتى غلب حقُّه على باطلهم ثم مضى لسبيله رحمه الله…). ويقول في ص: 138 على لسان أحد شخصيات الكتاب مفتخراً بتلمذته على يد محمد عبده: (حسبي أني من تلاميذ حكيم الإسلام، الأستاذ الإمام، طيَّب الله ثراه، وجعل النعيمَ مثواه…ولقد كنت ألصق الناس بالإمام أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره… كان يملأ علينا المجلس سحرًا من آياته وينتقل بنا بين مناطق الأفهام، ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار الخلائق، وحكمة الخالق… ولم يزل ذاك همَّه رحمه الله، يلقي في الأزهر دروس التفسير، وفي داره دروس الحِكمة حتى مضى لسبيله…).

ولعله من أجل ذلك وجدنا الشيخ محمد رشيد رضا (وهو تلميذ محمد عبده الأثير) يحتفي كثيراً بكتاب «ليالي سطيح» عند صدوره، ويُفرد للحديث عنه جانباً كبيراً من مجلته المنار (عدد: رجب 1326هـ)، ناقلاً عنه الصفحات الطوال، التي تتضمن الحديث عن شيخهما محمد عبده والثناء عليه. رحم الله الجميع وغفر لنا ولهم وللمسلمين.

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights