د. عطية عدلان يكتب: ألا إنّ نصرَ الله قريب
متى نصر الله؟ سؤالٌ يتردَّد على مرّ الأيام، يلاحق المسلمَ في الصحْوِ ويداهمه المنام، سؤالٌ يقتحم القلوب بألوان الطيف؛ ففي أكثر الأحيان يحمل معنى الاستعجال، وفي بعضها ينم عن ضعف ثقة بنصر الله، وقد ينبعث من شدة إشفاق على الحق وأهله، أو يُثِيرُه الحنقُ على الباطل وحِزْبِه، وهكذا؛ يتحلَّل وتتنوع أطيافه إذا غزا القلوب المؤمنة، كَمَا الشعاع الذي يمرّ على منشور من زجاج شفيف، وما يبعث على الطمأنينة أنّ هذا السؤال صدر أولًا من أفضل أجيال البشر وأقواهم إيماناً، وأنّ القرآن الكريم سجّله ودَوَّنه؛ لئلا ينزعج المؤمنون إذا وجدوا صداه يتردّد في جنبات نفوسهم ويدوِّي في آفاق قلوبهم: {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}، ولأجل تتويج هذه الطمأنينة بالبشرى؛ جاء الجواب كفلق الصبح في صورة خبر عاجل: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
فلماذا يتأخّر النصر إِذَنْ؟!
لم يَعُدْ لنا بعد هذا الجواب الفصل إلا أن نفحص هذه الجملة القرآنية الْمُشِعّة: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، ويثير الفحص والتنقيب سؤالاً أكثر فاعلية: ولماذا يتأخر النصر إذا كان في الأصل قريبًا؟ لا بدَّ أنَّ هنالك أسبابًا مبعثها حكمة الله عزَّ وجلَّ، ونحن مطالبون – بما وهبنا الله تعالى من عقل – أن نجتهد في البحث عنها واستكناهها، وقبل أن نلج هذا الباب يجدر بنا أن نُقرِّر حقيقتين غاية في الأهمية، الأولى: أنَّ سنة الله تعالى في نصر المؤمنين وأخذ المجرمين لا تتخلف ولا تتبدل؛ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}، الثانية أنّ هذه السنة تمضي في كل زمان بلون: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}، وقد قضى الله – ولا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه – أن يأخذ المجرمين في زمان أمة الإسلام بأيدي المؤمنين؛ لذلك بعد أن حكى الله تعالى في سورة القمر مَصارع الغابرين ختم بقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
أمّا تأخر النصر فله أسباب عديدة، منبَعُها جميعًا حكمةُ الله، لعلّ منها التمحيص واصطفاء الشهداء؛ ليكون ذلك التمحيص والاصطفاء مقدمة لمحق المجرمين: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)، وقد يكون منها استدراج المجرمين وإمهالهم والإملاء لهم: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، وقد يكون منها أنّ هناك أصنامًا عالميّة وإقليمية ومحلّيّة متمثلة في هيئات أو مؤسسات أو كيانات أو نظريات وأفكار قُدّر للأمة في الماضي أن تداهن كهنتها وسدنة معابدها؛ فجاءت الفرصة لتنهدم المعابد وتخر على عروشها؛ ويخلص المؤمنون من عقالها، وقد يكون منها أنَّ هناك ممن هم منغمسون في الغفلة، ومنطرحون في غياهب اللاشعور وظلمات اللامبالاة، من يعلم الله أن فيهم خيراً قد توارى خلف أستار التضليل، وأنهم سيكونون غداً في صف الحق؛ لذلك يتوقف قطار النصر لحظات ليدركه من لم يكتب عليه الفوات، {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ}.
من المكلف بدفع العدوان الصهيونيّ؟
يخطئ المسلم الذي يتساءل وهو متكئ على أريكته: “متى نصر الله؟”، يخطئ كثيرًا عندما يتصور أنّ المكلف بدفع عدوان الصهاينة هم الفلسطينيون؛ فهذا التصور ينبني عليه خلل في فهم السؤال بل وفي طرحه من الأساس، إذْ إنّ المطالَب بدفع غائلة الصهاينة وصدِّهم عن المسجد الأقصى وعن أرض الإسلام وحرمات المسلمين هم المسلمون أجمعون، ولا ينفرد الفلسطينيون بهذا الواجب الكبير إلا إذا قلنا إنّ حدود “سايكس بيكو” لها دور في تعريف وتحديد المخاطبين بالحكم الشرعيّ العام، إنّ حكم الوجوب يمتدّ ويتسع ليشمل الأمة كلها ويعم المسلمين جميعهم إذا لم يكن بأهل الثغر المرابطين قدرة على دفع صائلة العدو منفردين؛ ومن ثمّ نقول: إنّ ثبات المرابطين في غزة على الرغم من خذلان الأمة لهم أكبر دليل وأوضح برهان على أنّهم بالفعل هم المعنيون بحديث: (لا تزال طائفة من أمتى على الحقّ ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله)، فهل يطيب طرح سؤال: متى نصر الله؟
ما حقيقة الانتصار؟
لقد أوشكت أن أقتصر في تعريف الانتصار على أنّه: “النجاح في تحقيق الهدف من الحرب”؛ فإنّ الحروب اليوم لم تعد نتائجها تقاس بإحصائيات لعدد القتلى والجرحى أو بمقارنة بين الخسائر المادية والبشرية هنا وهناك، بل إنّ أغلب حروب هذا الزمان لا تنتهي بالحسم العسكريّ الخالص؛ وأرى بناء على ذلك أن ننظر إلى الأهداف التي من أجلها صدر قرار الهجوم العسكريّ، فإن كانت قد تحققت فقد تحقق النصر، وما زاد على ذلك فهو نفل أفاءه الله على أهل الإيمان، وقد قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)، ومع ذلك فإنّ كثيرًا من الرسل قتلوا، وكثير منهم لم يتبعه إلا القليل، وبعضهم يأتي يوم القيامة وليس معه أحد؛ فأين ما تحقّق له من النصر؟
وهذا السؤال يقودنا إلى التعرف على كثير من صور الانتصار التي نغفل عنها، والتي منها أن يثبت المؤمنون على المبدأ وعلى الحقّ حتى يلقوا الله شهداء؛ لأنّ النفع الكبير يتحقق للأمّة كلها وللأجيال بهذا الثبات الذي ظلّ حتى الممات، فهو ثباتٌ مُلْهِمٌ للأجيال وباعثٌ للهمم ومحركٌ للطاقات الكبار، فحسْبُ أهلِ غزة من النصر ثباتُهم وعدمُ استسلامهم، ثم يأتي ما وراء الثبات من النكاية بالعدو وتحطيم أنفه مع أسطورته الزائفة، وتعرية مشروعه الإجراميّ ليكون نفلًا لهم.
إنّ طوفان الأقصى خطوة على طريق طويل، ولكنّها خطوة حاسمة، قطعت شوطا بعيدًا في سبيل إنجاز النصر الكبير، فإن كُتِبَ لهذه الخطوة الاستمرار أكثر من هذا فهو إعجاز أسطوريّ سوف يسجله التاريخ للمقاومة بأحرف من نور، وإلّا فقد أدّت المقاومة ما عليها وأدّى أهل غزة ما عليهم، وبقي دور الأمة، وسيبقى وعدُ الله قائمًا: (ألا إنّ نصر الله قريب).