د. علي الصلابي يكتب: خطورة الهوى ودوره في تأخير النصر والتمكين

عرف أهل اللغة الهوى بأنه: «محبة الإنسان للشيء وغلبته على قلبه» (1).
وأما في الاصطلاح: ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع (2).
ويعتبر اتباع الهوى من أهم الأسباب في نشأة الكثير من الفرق الضالة، والطوائف المنحرفة، لأن أصحاب هذه الفرق قدموا أهواءهم على الشرع أولا، ثم حاولوا جاهدين أن يستدلوا بالشريعة على أهوائهم، وحرفوا النصوص والأدلة لتوافق ما هم عليه من البدع، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، بل اعتمدوا على آرائهم وعقولهم في تقرير ما هم عليه، ثم جعلوا الشريعة مصدرا ثانويا، نظروا فيها بناء على ما قرروه وأصلوه، ولأجل ذلك كان علماء السلف الصالح يطلقون على أهل البدع وفرق الضلالة لفظة «أهل الأهواء» (3)، بل كانوا يطلقونها على كل من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد (4).
ولذلك فكل مخالف لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، والعبادات، والطاعات إنما يكون متبعا لهواه، ولا يكون متبعاً لدين شرعه الله تبارك وتعالى (5).
والهوى من الأسباب التي لأجلها خالفت كثير من الأمم أنبياءها فاستكبروا ولم يقبلوا الحق والهدى والنور الذي جاءتهم به أنبياؤهم، عليهم السلام.
قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
إن الله تعالى ذكر داود عليه السلام وبيَّن في كتابه أسباب المحافظة على التمكين وذكر من ذلك الابتعاد عن الهوى، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
يقول ابن تيمية – رحمه الله -: «ونفس الهوى – وهو الحب والبغض الذي في النفس- لا يلام عليه، فإن ذلك قد لا يملك، وإنما يلام على اتباعه» (6).
وقال في موضع آخر: «ومجرد الحب والبغض هوى، لكن المحرم اتباعه حبه وبغضه بغير هدى من الله» (7).
إن اتباع الهوى من أسباب الفرقة، والفرقة من أسباب تأخر التمكين، فإذن فعلى المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية، الحريصين على تحكيم شرع الله تعالى، محاربة الهوى وقلع جذوره وأسبابه من النفوس.
إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير، وأن لا يموتوا إلا وهم مستسلمين لأمره منقادين لطاعته مبتعدين عن معصيته.
إن محاربة الأهواء طريق نحو الاجتماع والائتلاف، ونحو الأخذ بأسباب التمكين لهذا الدين.
إن اتباع الأهواء شتت جهوداً ضخمة في العمل الإسلامي، وأمرض قلوبا كانت حية.
إن العلاج الناجع والبلسم الشافي لمن ابتلى بشيء من الهوى، إلزام النفس بالكتاب والسنة، واتباع منهج السلف الصالح وتربية النفس باستمرار على التقوى والخشية من الله تعالى، واتهام النفس ومحاسبتها دائما فيما يصدر منها وعدم الاغترار بأهوائها وتزييناتها وخداعها، والإكثار من استشارة أهل العلم والإيمان واستجلاء آرائهم حول ما يريد أن يقوله ويفعله، وكذلك ترويض النفس على استنصاح الآخرين وتقبل الآراء الصحيحة الصائبة وإن كانت مخالفة لما في النفس، وتعويدها على التريث وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام وإمضاء الأعمال، والحذر من ردود الأفعال التي قد يكون فيها إفراط وتفريط وغلو أو تقصير، وجهل وبغي وعدوان، وإكثار المرء من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بأن يجنبه اتباع الهوى ومضلات الفتن, ويسأله تعالى أن يوفقه لقول كلمة الحق في الغضب والرضا، ويكثر من الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته: «وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب» (8)، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني اعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء» (9).
—————————————
مراجع الحلقة الثانية والخمسون:
(1) لسان العرب (15/371).
(2) التعريفات للجرجاني، ص257.
(3) انظر: الاعتصام (2/176).
(4) انظر: الفتاوى (28/133).
(5) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص36.
(6) الفتاوى (28/131).
(7) الفتاوى (28/133).
(8) النسائي، كتاب السهو، باب: الدعاء بعد الذكر (3/55) صححه الألباني رحمه الله.
(9) رواه الترمذي وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن الترمذي (3/183).