بحوث ودراسات

د. علي فريد يكتب: «فطوطة» والانتقاء الوضيع

تقول التنمية البشرية: أغمض عينيك وتخيل أنك أسد.. وستصبحُ أسداً!!

يَردُّ أخٌ سودانيٌ ظريف: (لا، ما ستصبح أسد.. ستصبح زُول مغمض عيونه بس)!!

وقد صدق الأخ السوداني.. وما أكثر الصادقين في السودان الحبيب!!

***

كَحَبَّة فشارٍ فوق صفيحٍ ساخن؛ يتقافز (فطوطةُ) أمام وجهك كل ساعتين ليستفرغ بعض شتائم جوفه ضد حكام المحميات العربية.. وتحديداً ضد حكام: (السعودية، والإمارات، ومصر، والأردن).. يستثني (قطر العيديد)؛ لأن قطر كعبة المضيوم!!

يسكت ساعة أو ساعتين، ثم لا تكاد تستمتع بنظافة الأجواء وقت سكوته؛ حتى يتقافز أمام وجهك مرة أخرى بالشتائم ذاتها ضد الحكام ذاتهم.. يُكرر المشهد في اليوم عشر مرات.. فإذا حل المساء وأوت الكائنات إلى مهاجعها؛ خرج من ساحة النضال (صالة بيته) لينخمد في استراحة المحارب (غرفة نومه).. بينما أنت (تُبلبع) شريط بندول كامل بسبب صداعه الذي احتل رأسك!!

يستيقظ صباحاً وقد شعر أنه أسد ليقف أمام المرآة مرة أخرى صارخاً: أنا أسد، أنا أسد.. وتستيقظ الكائنات مِن حوله بحثاً عن شريط بندول آخر!!

ما فعله بالأمس يكرره اليوم، وما يكرره اليوم سيفعله غداً.. في دورة دائبة من (الفطفطةِ) المتلفعةِ بوهم بطولةٍ لا تُضيف علماً بخبرٍ جديد، ولا تؤسس فهماً لعملٍ جديد!!

_ هل يكتفي (فطوطة) بذلك؟!

_ أبداً.. بل ينظر حوله، ثم ينظر حوله، ثم ينظر حوله.. وهناك في البعيد يلمح بشراً رزقهم الله شيئاً من هدوءٍ وحكمةٍ وصبرٍ وترفع؛ تكلموا- منذ عشر سنوات- فيما يتكلم هو فيه الآن، وانتهوا- منذ عشر سنوات- مما يبتديء هو به الآن.. فهم صامتون إلا من تذكيرٍ بقضية قديمة، أو تحذير من ملمةٍ جديدة

تأخذه حمية (الفطفطة) وتهزه (أسدية الزول المغمض عيونه)؛ فيفكر ويقدر، ثم يفكر ويقدر.. ثم يبدأ بالمزايدة على خلق الله:

لماذا لا يصرخون معي؟!

لماذا لا يتحدثون عن واقعنا المر؟!

لماذا لا ينزفون الكلمات دماً عن مآسينا المعاصرة؟!

ألا يعلمون أنه مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم!!

إنهم جبناء؛ يخافون الحكام ويلعبون في المساحات الآمنة!!

حين يؤذيك نهيقه- الذي ظنه أمام المِرآة زئيراً-؛ تنظر إليه بقرف المستيقظ من النوم قبل إفطاره وقد أيقظه خبطُ بائع الأنابيب تحت نافذته. ثم تنظر إلى هؤلاء الذين يشتمهم ويتهمهم بالجبن والانسحاب من الواقع وعدم الاهتمام بمآسي المسلمين؛ فلا تجد فيهم واحداً إلا وقد شُرِّدَ في منافي الأرض بسبب وقوفه في وجه الحكام، وعانى الأمرَّين في بلاد الله بسبب حرقته على مآسي المسلمين، وترك أرضه وماله وما وسع الله عليه به في بلده بسبب اهتمامه بأمر المسلمين!!

 تعود مرة أخرى للنظر إلى ما (يتفطفط به هذا الفطوطة)؛ فتكتشف أنه لا يقصد بمآسي المسلمين سوى مآسي جماعته التي جرت على المسلمين المآسي، ولا يعني بمرارة الواقع سوى المرارة التي تتجرعها جماعتُه التي جَرَّعَتِ المسلمين المرار.. ثم تقلب صفحات تاريخ هؤلاء الذين يشتمهم ويتهمهم بالجبن والانسحاب من الواقع؛ فتجدهم أشرافاً أطهاراً تجرعوا (معَ ومِن) جماعته المرار، وأبراراً صابرين تحملوا (معَ ومِن) جماعته المآسي.. وإذ (فطوطة) لا يرضى إلا أن تكون معه ومع جماعته في كل ما يريد وتريد.. حتى لو كان ما يريد وتريد هو إسقاط العقيدة وهدم الدين والسير في طريق المجرمين الكافرين!!

حين تصل إلى هذه القناعة لا تعود طبلة أذنيك تحتمل نهيقه الذي ظنه للمرة الألف أمام المرآة زئيراً.. تمسك أذنيه وتجره إليك كما يجر معلمٌ تلميذاً مشاغباً، وتقول له بهدوء المغتاظ:

أيْ (فطوطة).. كلنا يعلم أنَّ حكامنا أعداؤنا فهل عندك شيء غير هذا؟!

انزل الشارع واسأل أيَّ طفلٍ يلعب في أزقته، أو اذهب إلى مكانك الطبيعي في (مشفى العباسية) واسأل أي مجنون فيه.. سَلهُمَا عن حكام (الإمارات ومصر والسعودية والأردن).. هل ستسمع غير ألفاظِ الخيانة والعمالة والردة؟! هل ستسمع غير السب والشتم والتحقير؟! فإن كان ذلك كذلك فعلام تحرث المحروث وتطبِّلُ في المُطَّبِلِ فيه؟!

وإنْ كان هؤلاء الذين تتهمهم بالهروب الحقير وعدم الاهتمام بمآسي المسلمين والتحرك في المساحات الآمنة قد سلخوا سنواتٍ من أعمارهم وهم يحذرون الناس- وجماعتَك خاصة- مِن هؤلاء الحكام الذين خانوا الله ورسوله والمسلمين؛ فيرد أساطين جماعتك: (سَلمان غير).. إنْ كان هؤلاء أعذروا إلى الله مئات المرات في هؤلاء الحكام، وتحملوا بسبب ذلك الويلات؛ فعلام تزايد عليهم يا خيبة بني أبيك؟!

لقد قضت جماعتك الكئيبة عشرات السنوات من عمرها الكئيب وهي تتقلب- من أجل مصلحتها لا مصلحة المسلمين- في فراش هؤلاء الحكام، والناس يقولون لها: (عيب يا بنت)، وهي تصر على ما لا يرضاه لنفسه شريف أو شريفة.. فعلام تزايد الآن على من رأى العيب وحذر منه ثم مَلَّ من تكرار التحذير فانصرف إلى الحديث فيما ينفع الناس مما لا تراه أنت وجماعتك واقعاً وهو صُلبُ الواقع وأُسُّه.. أوَ صارَ لزاماً على الناس أن يشتموا مَن تشتمون وينافقوا من تنافقون ويتقافزوا كما تتقافزون؟!

ثم ماذا عن الحكام الآخرين الذين فعلوا مثل ما فعل هؤلاء الحكام حذو الخيانة بالخيانة، والعمالة بالعمالة، والردة بالردة.. لماذا لم يرك أحدٌ أو يسمعك تتقافز في وجوههم بالشتم، أو تتفطط حولهم بالسب؟!

هل هي المساحات الآمنة؟!

نعم.. هي المساحات الآمنة يا خيبة بني أبيك.. المساحات الآمنة التي تتهم غيرك بالتحرك فيها، وهي ذاتها مساحاتك التي تتحرك أنت فيها.. فكلٌ يرى الناس بعين طبعه.. وأول اتهام تتهمه لغيرك هو ما تشعر به في نفسك..

المساحات الآمنة هي المساحات المشهورة.. تلك التي يسترجل فيها كلُّ ذَكَر، ويتنمر فيها كل فأر، ويستأسد فيها كل (زول مغمض عيونه)!!

افتح وسائل التواصل كلها واحدة واحدة.. وستجد بين كل منشورٍ ومنشورٍ منشوراً صغيراً يشتم حكام الإمارات ومصر والأردن والسعودية- وهم يستحقون أكثر- ثم لا يجاوزهم إلى غيرهم ممن اقترفوا من الفظاعات مثل أو أضعاف ما اقترفه حكام السعودية والإمارات ومصر والأردن.. لا لشيء إلا لأنَّ جماعتك الآن تنام في فراش هؤلاء الحكام الذين كانت وما زالت طائرات الكفار تخرج من قواعدهم لتدك المسلمين من غير جماعتك في العراق والشام.. وما دام (المدكوك) من غير جماعتك فالخرس سيد الموقف، والتصفيق لنجاح تنظيم المونديال جهادٌ في سبيل الله!!

افتح منصات جماعتك الإعلامية وستجد تسعة وتسعين بالمائة من حملاتها الإعلامية موجهة ضد حكامٍ بأعيانهم لا تجاوزهم إلى غيرهم من أمثالهم.. وانظر في نفسك وستعرف إن لم تكن تعرف أنك تشارك (كذبابة إليكترونية) في تلك الحملات لتشعر أنك أسد بجناحين!!

لا تضحك على نفسك يا أحمق.. هذه المساحات- رغم بطولتها الظاهرة- مساحات آمنة (في حدود المكان والزمان اللذَين تعيش فيهما، وحدود مواضعاتهما السياسية الآنية التي ستتغير عاجلاً أو آجلاً).. فإن تغيرت- وهذا أكيد- فلن يكون التحرك فيها تحركاً آمناً لك أو لغيرك ممن يعيش في المكان ذاته وتحت المواضعات السياسية ذاتها.. وستجد حينها مِن نفسك وممن حولك مَن يُفتيك بضرورة الخَرَسِ وعدم إلقاء نفسك إلى التهلكة والكف عن التقافز والفطفطة.. وستفتحُ عينيك بعد كل تلك البطولات المتوهمة في تلك المساحات الآمنة لترى حقيقتك المرة في مرآة الصباح.. مجرد (زول مغمض عيونه)!!

***

أتعرفون ما مشكلتي مع (فطوطة) وأمثاله؟! مشكلتي معه ومعهم في (الانتقاء الوضيع)..

لقد سمع فطوطة عن حكام مصر والإمارات والسعودية والأردن.. ولكنه لم يسمع عن حكام (قلعة إيران).. أقصد: دولة إيران.. لا أدري أين سمعت صفة القلعة هذه منسوبةً لإيران!!

المهم.. فطوطة- وعلى مدار سبع سنوات أو أكثر من ادعاء الاشتباك مع الواقع والاهتمام بأمر المسلمين- لا تكاد تجد له شيئاً ذا بال عن إيران.. ربما تجد منشوراً هنا وجملةً وسط منشورٍ هناك ليخزي به العين عن انتقائه الوضيع!!

مَن يُحَدِّثك عن ضرورة الاشتباك بالواقع والاهتمام بأمر المسلمين يبدو أنه لم ير في أرواح أكثر من أربعة ملايين مسلم عراقي وسوري أزهقتهم إيران، وأكثر من خمسة عشر مليون مسلم هجرتهم إيران؛ واقعاً يستحق الاشتباك معه، أو مسلمين يستحقون الاهتمام، أو قضية محورية يجب التركيز عليها!!

ليس هناك مسلمٌ عاقلٌ على وجه البسيطة يمكن أن يرى أنَّ الاهتمام بقتل أكثر من أربعة ملايين مسلم وتهجير أكثر من خمسة عشر مليوناً آخرين ليس واجب الوقت، وأنَّ البحث في جذور هؤلاء القتلة وتاريخهم وعقائدهم وأفكارهم وأهدافهم، وتسليط الضوء عليهم، ومعرفة مِن أين جاؤوا وكيف جاؤوا، وإشاعة محفزات التفكير في كيفية مقاومتهم ومجاهدتهم ورد غائلتهم عن المسلمين؛ ليس عملاً واجباً على كل مسلمٍ يهون معه كلُّ عمل وتتأخر عنه أية نازلة.. خاصة إذا كانت النوازل الجديدة بسببهم وبسبب ألاعيبهم!!

هناك فردٌ واحد يرى ذلك عملاً ثانوياً هامشياً.. هو ذلك الفرد الذي يعادي ويوالي على فكر جماعته، ومنهج جماعته، واختيارات جماعته.. فإن وَضَعَت جماعتُه يَدَهَا في يد الشيعة القتلة، ونظف حزبُه وساخاتِهم ولَمَّعَ وجوهَهم وأسماءَهم؛ صَمَتَ هو صمت الموتى عن مذابحهم في المسلمين، وإن سحبت جماعتُه يدها- لمصلحة آنية- من يد الشيعة القتلة؛ أخرج هو ملفات تلك المجازر ليناضل بها مدعياً دفاعه عن المسلمين.. فلا هو دافع عن المسلمين حقاً ولا هو ناضل ضد هؤلاء الشيعة القتلة حقاً.. وإنما مُنْطَلَقُهُ جماعته، وغايته جماعته، وهدفه جماعته.. ولا بأس بعد ذلك بكلمة عن الشيعة هنا وجملة عن إيران هناك دون أن ينسى تغليفها بضرورة استصحاب الحكمة المدَّعاة، وعدم إغفال الواقعية السياسية المتوهمة!!

ثم إنْ أصابت جماعتَه نازلةٌ أو حزبَه كارثة؛ انتفض كاللديغ صارخاً: أين المسلمون؟! أين حكام العرب؟! أين شعوب العرب؟! أين كُتَّابُ العرب.. وإذ به لا هم له إلا تجييش الجيوش الإليكترونية وتكتيب الكتائب الفيسبوكية لمؤازرة حزبه وجماعته.. لا لأنهم مسلمون بل لأنهم حزبه وجماعته..

يرى مسلماً سُوريَّاً أو عراقياً أو يمنياً يبكي قهراً وحزناً، ويتضرع إلى الله برفع الغمة عن حزب (فطوطة) وبلد حزبه، ويتبرع بكثيرٍ من القليل الذي يملكه نصرةً لحزب (فطوطة) وبلد حزبه؛ فلا يعجبه كل هذا.. هو يريد الصراخ الدائم والعويل المستمر والتطبيل الأبدي.. فإذا فار الدم في عروق عراقي غضوب، أو شامي يائس، أو يمني حكيم استفزه صراخُه فقالوا له: إنَّ حزبك هذا قَتَلَنَا حين والى الشيعة الذين قتلونا، ونحن نتناسى حقارتَه تلك ونغضب للمسلمين في بلد حزبك رغم عدم غضب حزبك لنا، بل وموالاتِه لمن يقتلنا.. إذا قالوا له هذا؛ هاج وماج وارتمى على الأرض كالطفل البغيض يفحص بقدميه ويخبط بذراعيه!!

أتعرفون ما هذا؟!

هذا هو الانتقاء الوضيع..

أتعرفون لماذا هو وضيع؟

لأنه يغلف مصلحة حزبه بمصلحة المسلمين، وليس من هَمِّهِ مصلحة المسلمين إلا بالقدر الذي يُحقق بها مصلحة حزبه.. فيضع الغرض الخسيس في الصورة الشريفة.. وهذه قمة الوضاعة.. لأنه لم يفعل ذلك مع مسلمين آخرين قتلتهم آلة القتل الشيعية الإيرانية بأعداد تفوق ما قتلته آلة القتل اليهودية من المسلمين بآلاف المرات!!

ليس هناك واجب وقت (الآن) أوجب من التحذير والتنبيه على خطر المشروع الصفوي.. لأننا في عصرٍ (بويهي)؛ بدأ منذ هلل المسلمون للقرمطي الخميني القادم على طائرة فرنسية، وأدخلوه حصن الإسلام ليهدمه من داخله..

لا مشروع الحكام العرب- إن كان لهم مشروع غير الحكم أصلاً- ولا مشروع الصهاينة، ولا مشاريع الصليبيين؛ يحتاجون منا إلى مجرد الصراخ لتعريف الناس بها وبهم.. فالناس تكتوي بنارهم وتعرفهم منذ أكثر من مائة سنة.. بل تحتاج منا إلى العمل الجاد لإزالتهم وإسقاط مشاريعهم المعروفة، لا مجرد التعريف بها!!

أما المشروع الصفوي الشيعي الإيراني؛ فكارثته (الآن) أكبر من كل هذه الكوارث.. لأنه مجهول لعامة الناس.. كان مجهولاً للسوري الذي عَشِق حسن نصر الله قبل أن يذبحه حسن نصر الله، ومجهولاً للعراقي الذي قَدس سليماني قبل أن يُحرقه سليماني، ومجهولاً لليمني الذي رفع صورة الحوثي قبل أن يحاصره ويجوعه ويقتله الحوثي..

لو كنتَ زُرتَ سوريا سنة 2006 وتناولت حسن نصر الله بكلمةِ نقدٍ عابرة وسط مقهى؛ فلم تكن لتخرج مِن ذلك المقهى سالماً..

إنَّ النفاق الباطني أشد على جماعة المسلمين من الكفر الظاهر.. وها هي (قناة الجزيرة) قبحها الله وقبح المسؤولين عنها تسحر أعين الناس وتخدعهم بتلميع الأوباش والقتلة والسفاحين، وتسميتهم أنصار الله، وأبطال المقاومة، وشهداء الجهاد ضد اليهود!!

إن موجة الشيعة والتشيع عالية جداً.. ومَن أراد حقاً الاشتباك مع الواقع والاهتمام بأمور المسلمين فليجعل أكبر همه في تعريف المسلم بالعدو الذي تدخله قناةُ الجزيرة بيتَه، وجماعةُ المتأسلمين دماغَه، وفطافيط الهياط والصراخ قلبَه.. ثم لا بأس بعد ذلك بالاهتمام بمآسينا الأخرى- وما أكثرها- كل حسب ترتيبها الوقتي وأهميتها الآنية!!

فطوطة لا يريد أن يفهم هذا وأمثاله..

فطوطة يريد (الشيكولاته) في الوقت الذي يريد فيه (الشيكولاته)، ويريد (المصاصة) في الوقت الذي يريد فيه (المصاصة)، ويريد (البونبوني) في الوقت الذي يريد فيه (البونبوني)؛ وإلا فسيرتمي على الأرض كالطفل البغيض مُدِبدبَاً بقدميه وخابطاً بذراعيه، وصارخاً بلسانه: هروب حقير.. هروب حقير!! ولله في خلقه شؤون!!

وأنا يعلم الله أني إذ أكتب هذا الذي تقرؤون الآن- مما لم يعتده مني مَن يعرفني- لا أكاد أحصي عدد المرات التي كَتَبَ فيها هذا (الفطوطة) يهاجمني سباً وشتماً وانتقاصاً، وأنا أقابل كلَّ ذلك بابتسامة المشفق، وإعراض المترفع، وصبر المتغافل.. وما أكثرَ ما ساءلت نفسي بعد قراءة بعض سبه وشتمه وحماقاته التي تأتيني عنه عن سبب ضيق عطنه، والتواء نفسه، ثم امتلاء قلبه بالسخائم تجاه شخصي الضعيف؛ فلا أكاد أجد شيئاً ذا بال؛ إذ ليس بيني وبينه معرفة شخصية وثيقة أو صداقة قديمة.. اللهم إلا أن يكون سبب ذلك اختلاف نظر، أو تعارض رأي، أو تباين اتجاه.. مما لا يورث عقلاء الناس مراكمة السخائم أو اعتقاد الحزازات!!

فلما زاد الأمر عن حده، وجاوز الحزام الطبيين، ولم يعد في قوس الصبر منزع؛ رأيت أنَّ الأسلوب الأمثل للتعامل مع أمثال هذا (الفطوطة) هو أن توقظه من غفلته بصفعة، وتنبهه لحجمه بركلة، وتحفظه من نفسه بدعسة.. فإن الأحمق إن لم يردعه المشفقون ببعض الأذى؛ جر على نفسه وعلى غيره الويلات.. وأنا والله مشفق عليه صفعاً وركلاً ودعساً!!

وقد كنت أظن أن مشكلته في عقله (إن كان يملك واحداً)، ثم اتضح لي أن مشكلته في أمرين اثنين:

الأول: خياله المريض.

والثاني: خِزانة ملابسه.

فهو يستيقظ صباحاً فيمارس الطقوس المعتادة (للزول المغمض عيونه)، ثم يأخذه سُكْرُ اللحظة؛ فيحلم يقظاناً بلعب دورٍ آخر غير دور الأسد؛ لأنه اكتشف أخيراً أنَّ الأسد ليس أكثر من حيوان، وقد كرم الله بني آدم على الحيوانات رغم إصرار بعضهم على الحيونة!!

يحلم يقظاناً بلعب دور الفقيه.. فيفتح خزانة ملابسه، ويُخرج زِي الفقهاء فيرتديه، ثم يقف أمام المرآة: يا إلهي ما أجملني لقد صرت فقيهاً.. وفي الصباح التالي يحلم يقظاناً بلعب دور المُحَدِّث، فيفتح خزانة ملابسه، ويخرج زي المحدِّثين فيرتديه، ثم يقف أمام المرآة: يا إلهي ما أجملني لقد صرت مُحدِثاً.. ثم في الذي يليه يحلم يقظاناً بلعب دور المؤرخ فيفتح خزانة ملابسه ويخرج زي المؤرخين فيرتديه، ثم يقف أمام المرآة: يا إلهي ما أجملني لقد صرت مؤرخاً.. وهكذا دواليك فلا خياله المريض يجف، ولا خزانة ملابسه تريحنا وتحترق!!

الكارثة أنه حين يلبس هذه الأزياء ويتمثل طبائع أصحابها؛ تأخذه انتفاخةُ الهِرِّ الذي يحكي صولةَ الأسد، فيشتم هذا الفقيه، ويسب ذاك المُحدِّث، ويتطاول على ذلك المؤرخ.. لا لشيء إلا لأنهم لم يستأذنوه في موضوعاتِ كتاباتهم وتوقيت نشرها.. كيف يكتب مُحدِّثٌ عن معلقات البخاري في صحيحه دون إذن (فطوطة)؟! وكيف يكتب فقيه عن مخالفات أبي يوسف لشيخه أبي حنيفة دون إذن (فطوطة)؟! وكيف يكتب مؤرخ عن الفتنة بين الصحابة في التاريخ دون إذن (فطوطة)؟!

ثم أصلاً كيف ينشغل هؤلاء الناس بهذه الأشياء وسط هذه الكوارث التي تنهال على رؤوس المسلمين.. ودون إذن (فطوطة) أيضاً؟! يا له من (هروب حقير)!!

المذهل في الأمر أنك ربما تُصاب- حفظك الله- بالفالج حين تعرف أنَّ (فطوطة) ذاته سلخ ساعاتٍ وساعاتٍ من أيامه الكئيبة المُكئبة في الحديث عن كثيرٍ من هذه الموضوعات والهبد حولها وحول أمثالها وسط كل هذه الكوارث التي تنهال على رؤوس المسلمين، دون أن يسمي ذلك من نفسه هروباً حقيراً أو تركاً للأولى!!

وحين يأخذك العجب والدهشة من هذا التناقض القذر لا تتمالك نفسك من البحث عن إجابة للسؤال الذي قفز أمام عينيك الآن: هل اتهام (فطوطة) لهؤلاء لناس بـ(الهروب الحقير) يمكن أن يغطي سوأة (انتقائه الوضيع)؟!!

وهل مشكلة (فطوطة) مع هؤلاء الناس مشكلة (مبادئية خارجية) أم هي (نفسية باطنية)؟!

وصدقني حين أقول لك: إنَّ مفتاح إجابة هذا السؤال يكمن- فقط- في كون (فطوطة) يمتلكُ خيالاً مريضاً، وخزانةَ ملابس، ومرآةَ زُولٍ يُغَمِّضُ أمامها عيونه!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى