د. محمد جلال القصاص يكتب: الاشتراكيون في القرية!!
لازالت بعض المشاهد من سنوات الطفولة الأولى متكئة بخاطري، من ذلك أني كنت أتجول في الشوارع والأجران بحثًا عن لهوٍ، كعادة الأطفال وقتها فلم يكن بالبيت ما نلهو به كما هو اليوم. وكنت آتي إلى مكان يحاط بمساحة واسعة من الخراب (الجُرن= مكانٍ خال بين المساكن أو ملاصق لها). يبدو وكأنه في طرف القرية لسعة المساحة الخالية من السكان حوله.
كنت في الرابعة من عمري أو يزيد قليلًا!
آتي هذا المكان بعد العشاء.. بعد أن تُغلِق عليّ أمي الباب وتطمئن إلى أني سكنت للنوم، وبعد أن ينام أبي- وظل طول عمره ينام بعد العشاء مباشرة- كنت أصعد للسطح بعد أن يهدأ الجميع؛ ومن سطحٍ لسطح حتى أنزل من عند رابع- أو خامس- جارٍ لنا في «جُرن» صغير ومنه للشارع، ثم أذهب لهذا المكان المتطرف جغرافيًا بجوار بيت “زيدان شكر”!!
حفنة من الشباب يغلقون على أنفسهم بابًا من الصاج.. كأنه جراج، ويجلسون على كراسي ودكك من الخشب، ويمتلئ المكان بالدخان، وبالصياح، كأنه محل فيديو. ولم يكن محل فيديو. فقد كان هؤلاء يتصايحون ويتحدث فيهم أحدهم.. وربما يهتفون هتافًا جماعيًا. ويعرض على الشاشة التي يشاهدونها بعض المشاهد لجنودٍ في عربات جيش والجنود يشيرون بإشارة النصر (رفع السبابة والوسطى).. كأنها- كما خُيِّل لي بعد مشاهد من الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات.
وأتذكر خطيبهم: ربعة (ليس بالقصير ولا بالطويل) أبيض.. ممتلئ قليلًا.. أحد الشخصيات المميزة جدًا في القرية، وقد خرج منها إلى الأسكندرية ولم يعد.. علمت هذا بعد قرابة خمسين عامًا من أحداث الطفولة هذه… ولم أره بعيني بعد هذه المرة في سن الطفولة.
كانوا يحرصون جدًا على غلق الباب، وكنت أدخل من تحت الباب. كان بابًا من الصاج مرتفعًا عن الأرض. ولم يكن يطردني أحد، لصغر سني ربما!!
وأحيانًا يكونون قلة داخل هذا الجراج وفقط، وأحيانًا يكثرون فيكونون بداخله ومن حوله!!
كأنهم في جراجهم هذا مجتمع.. أو قل: لقاء معارف.. ولم يكن مجلسًا مفتوحًا لمن شاء.. هكذا بدى لي المشهد!!
ترددت عليهم أكثر من مرة، حتى اختفوا!!
ثم تتابعت الأيام بحلوها ومرها، وذات يوم شاهدت رئيس حزب العمل «إبراهيم شكري» في أحد بيوت القرية (من عائلة مهنا في وجه المسجد مباشرة)، وأذكر تفاصيل هذه الليلة.. كأني من حضّر لها.. كنت يومها في الجامعة، وشاركت «إبراهيم شكري» وحزب العمل في بعض الفاعليات، وكنت أقرأ صحيفة الشعب بشكل دوري، وخاصة مقالات الدكتور محمد عباس!!
تجمعوا في هذا البيت يرفعون شعار النجمة (شعار الحزب) ويكتبون بجوارها آية قرآنية (وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون)، وتعجبت يومها من خلط القرآن الكريم بالشعارات الحزبية..
تساءلت: أي نجمٍ به يهتدون؟!، ودار بخاطري ما يُكتب على محلات العصير (وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا)، وما يكتب على المطاعم (كلوا واشربوا هنيئًا)، وفي الصيدليات (فيه شفاء للناس).
كان العدد كثيفًا، وكان الحدث كبيرًا بالنسبة لقرية، ربما كثر عددهم بمن حضر مع رئيس الحزب، وهو شخصية عامة معروفة وقتها، ولكن من حضر من أهل القرية كثير أيضًا.
بقيت أفتش عن هؤلاء الذين شاهدتهم في الصغر، وفي الشباب، ولم أجدهم.
أين ذهب هؤلاء؟!
لماذا لم تتكون في هذه القرية ظاهرة ثقافية؟ أو ظاهرة إصلاح اجتماعي؟!
أتحدث عن ظاهرة لا عن أفراد يسعون في الخير. فهذا موجود ولله الحمد.. السؤال عن الظواهر التي تحدث تغيرات جوهرية في الناس.
أين يذهب المثقفون؟ ولم لا يظهر في القرويين وفرة من المصلحين؟
لما لا يثمرون إلا في المدن؟ .. أو بالأحرى لم لا يثمرون إلا من خلال المدن؟
عندي إجابة، وإن شاء الله أبثها خلال السرد.
تلاشت الاشتراكية بعد أن فشلت في نسختها الأصلية (الاتحاد السوفيتي)، وتفرق المؤمنون بها بعد أن تبين أن هذه الأفكار تفسد ولا تصلح، وما حال الناس تحت حكم الاشتراكية في النسخة الأصلية (السوفييت) ببعيد.
تفرق عوام الشيوعيين وتاهوا بين الناس، ونفر من النخبة تحولوا للضد تمامًا.. تحولوا إلى الديمقراطية والوطنية.. بعد أن كانوا شيعيون أصبحوا ديمقراطيون (وهذا كفر في دينهم)، وبعد أن كانوا قوميون أصبحوا وطنيين.
وظني أن كثيرًا ممن انتمى لمثل هذه الظواهر الثقافية كان يبحث- بالأساس- عن ذاته من خلال أداء دورٍ في نشاط اجتماعي أو ثقافي. ولم تكن الأفكار ولا من ينظِّر لها هي هدفه الرئيسي.. حتى المثقفون من هؤلاء يدفعهم الشعور بالتميز والبحث عن مكانٍ مرتفع ليراهم أكبر عدد ممكن من الناس فيذكرونهم ويثنون عليهم.
وهي الدنيا لا تصفو من كدر، فكل من برز في الناس أحاط به اثنان: من يمدحه ومن يذمه. وليس فيها من لذة حقيقية سوى ساعات تقضيها بين يدي ربك العلي الكبير.. تتلو كتابه (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:51)، وتناجيه ثناءً عليه بما هو أهله، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الزمر:67)؛ فإلى الله.
وإلى من تبقى من هؤلاء يبحث عن ذاته في ثناء الناس والحضور على السنتهم ننادي عليه بما قال حسان لسَخِينة (قريش) وهي تغالب ربها:
إذا سلكت للغور من بطن عالج… فقولوا لها ليس الطريق هنالك.