د. محمد جلال القصاص يكتب: من وحي الشيطان
بدأ النبش عن آثار الهالكين مع العلمانية. فبعد أن قضى العلمانيون على الكنيسة ونُظِمٍ (جمع نظام) الحكم المصاحبة لها (الإمبراطوريات)، أسسوا لمرحلة جديدة تعادي الدين جملةً وتتخذ من نموذج الدولة القومية الحديثة وسيلة للحكم، وراحوا يبحثون عن مصدرٍ معرفي بديلٍ “لـلعهد القديم والعهد الجديد”، وذلك بعد أن ثبت كذبهم في كثير مما تحدثوا به عن الأولين؛ ومحاولةً لبناء ذاكرة خاصة بهم بعيدًا عن الديانات السماوية؛ ومحاولةً لطمس هوية الشعوب التي احتلوها وخاصة الشعوب الإسلامية؛ وإرباكًا للمعرفة الإنسانية بحديث عن ماضٍ لم يثبت مطلقًا، أو لم يثبت بيقين، أو قرئ بشكل مجتزأ.
ومن أهم ما يمكن رصده في الكشوفات الأثرية هو التشابه بينها، وخاصة التماثيل والأنصاب، فالأهرامات وجدت في “أمريكا الوسطى”، ووجدت في أفريقيا، ووجدت في الصين. وكذا الرواية النصرانية عن التجسد والصلب من أجل الفداء تكررت أكثر من مرة على مدار التاريخ، وموزعة على صفحات الأيام والأماكن، ففي كل مكان وزمان ذات القصة.. وقوم يقولون أن “مخلصهم” هو المخلص الوحيد!!
ذهب عباس العقاد إلى أن سبب ذلك هو تمدد الحضارات، وراح يتحدث عن بطولات خارقة لشعب من الشعوب جعلت أصنامه وأنصابه تتواجد عند شعوب أخرى!
يفسر عباس وجود تماثيل مشابه لتماثيل الفراعنة في الهند بأن المصريين (الفراعنة) بلغت دولتهم الهند!! ويفسر الغربيون تواجد تماثيل الإغريق في الهند بأن اليونانيين غزوا الهند واستقروا فيها حينًا من الدهر وشيدوا أصنامهم ونصبوا حولها أنصابهم (الأسكندر المقدوني)!!
ووقف ابن خلدون في مقدمته عند هذه الأخبار ومثلها (كالقول بتمدد تتابعة اليمن تجاه المغرب العربي)، ولكنه أراح نفسه من عناء التفسير. راح ينكر تلك الأخبار ويتهم من نقلها بأنه ينقل الكذب بقصد أو بدون قصد، واتكئ في مقدمته على أن عامة كتاب التاريخ (الإخباريين) ينقلون ما يجدون دون تدبر، ولم يحاول تفسير هذه الظاهرة، فقط شكك فيها واتهم من نقلها بالتساهل في نقل الأخبار الكاذبة!!
وفي القرآن الكريم أن الشيطان سبب ذلك كله.
في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة، أن الشيطان هو الذي حرض البشر حتى نصبوا الأوثان (التماثيل والبيوت) وشيدوا الأنصاب (منصات) وجعلوا حرمًا آمنًا حول أوثانهم. وأن ذلك مرَّ بمراحل: كان بدايتها تعظيم السادة والكبراء، ثم تصويرهم على الجدران، ثم نصب أصنام لهم، وأنصاب حولهم يذبح عليها من شاء أن يتقرب إليهم. ويكتمل المشهد بوضع الأصنام وأنصابها في حرمٍ يخلعون عليه “قداسة” كي يتخلى الداخل إليه عن يقظته الفكرية والإنسانية فيهريق عقله ومروءته بدعوى أن لا عقلانية في “التعبد”!!
أفكار الكفر وتطبيقاته العملية محدودة جدًا، وتتكئ كلها على فكرة واحدة هي: تعظيم شيء في الأرض لذاته أو وصولًا لمن في السماء، سبحانه وتعالى وعز وجل. فهذا التشابه في التصوير على الجدران، والتمثيل بأحجار، و”الحرم الآمن”، أمارة في “المخبر عنه” بأنه خرج من رأس واحدة.. إبليس لعنه الله. وليست كما يدعى العجلى أنها حالة من اجتياح الحضارات بعضها بعضًا.. ليست بصمة تتركها كل حضارة على غيرها حين تستحل حرامها.
وشيء آخر في المخبر عنه يدل على أنه إبليس. كان ولايزال. وهو أن النابشين عن تماثيل الأمس والمسوقون لها اليوم يخفون تمامًا ذكر الرسل والأنبياء في تلك الأمم، والله يقول: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
إنه إبليس وإنهم جنود إبليس عظموا شيئًا، ثم صوروه على الجدران، ثم تماثيل تُحس ليأنس بها الغبي البليد، ويتخذها الملأ أداة للسيطرة على المال والسلطان؛ ثم جعلوها أفكارًا يعظمها ويضل بها الذين من بعدهم؛ فطبعي أن ينزعوا ذكر الرسل وأتباعهم من إفكهم.
يقول الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، فأثبت للشيطان وحي، وهذا يعني أتباع وشرع وواقع يتحرك في مواجهة الأنبياء والمؤمنين بالله ورسله.
اللهم لا أقول بقولهم، ولا أقف في صفهم، اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك.