د. محمد زويل يكتب: الهجوم الإيراني تمثيلية ام ردع استراتيجي؟
هل ينطبق هذا على ما فعلته إيران فجر يوم 14/4/2024 على العدو الصهيوني؟
في إطار تحليل إدارة الصراع الاستراتيجي بين القوي الفاعلة والمؤثرة الإقليمية في الشرق الأوسط وبين القوي العالمية الأخرى
شكل الهجوم الإيراني واسع النطاق ضد إسرائيل، نهاية لمسارات الحرب المتغيرة بين الدولتين، من الحروب الاستخباراتية إلى الهجمات والرسائل العلنية خارج حدودهما، وصولاً إلى المواجهة العلنية والمباشرة في 14 أبريل، حيث شكل ذلك الهجوم علامة فارقة في العلاقة المعقدة بين الدولتين، ويعتبر خروجاً عن مألوف الاتفاقات الضمنية التي صمدت لعقود بعدم مهاجمة أراضي الآخر، بالإضافة إلى الاستخدام الواسع للترسانة الصاروخية والطائرات دون طيار الموجودة لدى إيران.
مع ذلك؛ كان واضحاً أن الهجوم صُمم لإبقاء التصعيد منضبطاً ولتفادي رد فعل إسرائيلي وأمريكي يدفعهما للقيام بحملات انتقامية، وقد استغرقت إيران ما يقارب أسبوعين منذ هجوم إسرائيل على قنصليتها وحتى الرد عليه، لإتاحة المجال أمام المسؤولين الإسرائيليين لتوضيح الخطوط الحمراء عبر الإعلام والتي يستدعي تجاوزها انتقاماً عسكرياً في الأراضي الإيرانية وكذلك لفهم الموقف الدولي من هجومها، وتبادل الرسائل غير المباشرة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بنطاق ومستوى هجماتها المقبولة وقد أعلنت طهران بالفعل إعلامها الولايات المتحدة مسبقاً حول محدودية ردها.
والذي جاء في نهاية المطاف مشابهاً إلى حد كبير من حيث الأسلحة المستخدمة وتأثيره بالقصف الإيراني الذي استهدف قاعدة عين الأسد عام 2020 رداً على مقتل قائد قوة القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني في غارة أمريكية، وجاء الإعلان الإيراني عن انتهاء الهجوم في وقت مبكر من إطلاقه، وحتى قبل اقتراب الطائرات دون طيار والصواريخ من المجال الجوي الإسرائيلي، ما وضع حداً للتكهنات بشأن وجود خطط إيرانية لإطلاق موجات جديدة باتجاه إسرائيل، ومكن فرق الدفاع الجوي في مسارات عبور الأجسام الطائرة من التعامل معها ومعالجة الموقف بشكل كامل.
مع ذلك يحمل الهجوم الإيراني مجموعة عريضة من الرسائل إلى دول المنطقة والعالم ومنها:
1- أن إيران أصبحت في وضع يُتيح لها الانتقال من العقيدة الدفاعية إلى عقيدة هجومية، بعد أن استعرضت مجموعة واسعة من ترسانتها الاستراتيجية والتي اختبرت إسرائيل قدرتها على اختراق عمقها وأجوائها، وهي رد على تغير الفكر الإسرائيلي من «الحملة بين الحروب» إلى عقيدة «الاخطبوط» التي تستند على ضرورة مهاجمة إيران بدلاً من استنزاف قدراتها في مواجهة مع وكلائها.
2- وجهت إيران رسائل إلى دول المنطقة بشأن قدرتها بإشغال الإقليم بتصعيد غير مسبوق، خاصة وأن الأجسام الطائرة عبرت سماء ثلاث دول عربية، ودفعت الأردن للتعامل مع مئات الطائرات دون طيار والصواريخ التي انتهكت مجاله الجوي وإسقاطها، والذي سوقته طهران بأنه من أشكال الدفاع عن إسرائيل، كما تزامن مرور الأجسام الطائرة الإيرانية فوق الأراضي العراقية مع تواجد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في الولايات المتحدة بدعوة من الرئيس الأمريكي جو بايدن.
3- سعت إيران لإثبات قدرتها أمام حلفائها في روسيا والصين بأنها قوة يمكن الاعتماد عليها في مواجهة خصمهم المشترك والمتمثل في الولايات المتحدة، حيث يشكل الهجوم رسالة ردع مركبة إلى كل من إسرائيل والولايات المتحدة بشأن ما تمتلكه من قدرات هجومية غير محدودة.
4- تزامن الحدث مع احتجاز الحرس الثوري الإيراني في اليوم نفسه سفينة شحن إسرائيلية في بحر العرب، وبالرغم من أن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، إلا أن آثارها الاستراتيجية كبيرة بالتزامن مع التصعيد الحوثي في باب المندب والبحر الأحمر، وهي رسالة مفادها أن أي تصعيد لاحق يعني أن مضيق هرمز لن يكون آمناً، وذلك يوسع قائمة المتضررين من أي تصعيد إيراني إلى النطاق العالمي.
5- باستخدام إيران مئات الطائرات دون طيار والصواريخ الباليستية، أصبح لديها خريطة شاملة لأماكن تواجد منظومات الدفاع الجوي الأمريكي حول المنطقة، وعن أساليب الدفاع الجوي الإسرائيلي، والتي لم تكن مكشوفة من قبل للإيرانيين، بينما تعلم الولايات المتحدة وإسرائيل كافة أصناف الترسانة الإيرانية المستخدمة في الهجوم.
وبينما يبقى هناك ترجيح بتنفيذ إسرائيل هجمات انتقامية، خاصة في ضوء مواقف التيارات المتشددة تجاه إيران في إسرائيل والولايات المتحدة، من ضرورة اغتنام الفرصة لتوجيه ضربة أعمق ضد الترسانة العسكرية أو النووية الإيرانية، إلا أن تصعيد المواجهة لا يخدم أي من الأطراف الثلاث (إسرائيل وإيران والولايات المتحدة)، فمن جهة تُدرك إسرائيل أن هجماتها الأخيرة ضد كبار الضباط الإيرانيين ومفاقمة الضغط العسكري عليها في سوريا، ومهاجمة أحد مقارها الدبلوماسية سيؤدي إلى رد إيراني مباشر في أراضيها، ذلك أنها ستكون بحاجة إلى استعادة موازين الردع وقواعد الاشتباك وضمان عدم تجاوزها دون عواقب، و الردع بالمعنى الاستراتيجي السياسي هو محاولة طرف ما منع طرف آخر من القيام بفعل يرى الطرف الأول أنه ضار به أو لمنع الطرف الآخر من أن يفكر بالقيام بعمل ما أو تصرف أو سلوك معين يمكن أن يشكل تهديدا لمصالح الطرف الأول أو لأهدافه أو لموقعه أو لمكانته.
أما بالمعنى الوقائي فيعني؛ تحضير الطرف الأول واستعداده لامتلاك الإمكانيات والقدرات والوسائل التي تمنع أي فعل عدائي، وبالتالي توفير أدلة وبراهين للطرف الثاني، حول امتلاك القدرة الثأرية التي تكفل الرد عليه بشدة عند أي محاولة لتهديد الأمن القومي للطرف الأول.
ويتكون الردع من جزئين رئيسيين:
الردع المادي:
يشمل كل أنواع القوة وأدواتها التي تكفي لمعاقبة الخصم.
الردع المعنوي أو النفسي:
يهدف إلى التأثير النفسي في الخصم من خلال إقناعه بجدوى الاستسلام وأن عدمه يعني ارتفاع عواقب التشبث بالمواقف بشكل لا يستطيع تحمله.
وبذلك فإن قدرات الردع في كافة المستويات، مبنية على معطيات الواقع، حيث يستند على جملة من مقومات القوة المادية والمعنوية، التي يتم توظيفها في الزمان والمكان المناسبين. هل ينطبق هذا على ما فعلته إيران فجر 14/4/2024 على الصهاينة؟
ومن عجيب التوافق بين هجمات إيران والوضع بالداخل الاسرائيلي انه عاد بشكل إيجابي على الحكومة الإسرائيلية من حيث:
أولاً: أن سياق الهجمات الإيرانية منذ التهديد إلى التنفيذ جاء في وقت تشهد فيه الجبهة الداخلية الإسرائيلية انقساماً حاداً، ومظاهرات عدة تطالب إما برحيل الحكومة أو إبرام صفقة مع حركة حماس لتحرير الأسرى الإسرائيليين.
ثانياً: أعادت المواجهة بين الدولتين حكومة بنيامين نتنياهو إلى قائمة الأحداث، بعدما شهدت محاولات أمريكية لعزلها عن المشهد، وتكثيف تواصل واشنطن مع المعارضة الإسرائيلية من خلال استقبال كل من العضو في حكومة الحرب الإسرائيلية بيني غانتس، وزعيم المعارضة الإسرائيلية يائيرلابيد في واشنطن.
ثالثاً: أدى تصاعد التوتر إلى تخفيف حدة خطاب القادة الأوروبيين تجاه الحكومة الإسرائيلية، ووقف المطالب المستمرة بوقف الحرب، والدعوات لمراجعة مبيعات الأسلحة الأوروبية إلى إسرائيل.
في المقابل؛ تتقاطع المصالح الإيرانية-الأمريكية باحتواء التصعيد ومنع تفاقمه، وقد أتاحت واشنطن الفرصة لطهران بحفظ ماء الوجه عبر تنفيذ هجوم مركب شمل على استعراض ترسانة واسعة من الأسلحة الاستراتيجية، لكن دون أن يخلف قتلى أو أضرار مادية تذكر سواء في المنشآت العسكرية أو المدنية، ويكشف طلب واشنطن من إسرائيل التنسيق معها في أي ضربة انتقامية محاولة لكبح التصرفات غير مدروسة التداعيات من جانب إسرائيل، حيث تشعر الأولى أن حكومة نتنياهو تحاول جرها إلى اشتباك واسع في المنطقة ضد إيران.
ماذا بعد هجمات إيران؟
بالرغم من أن الضربات الإيرانية المباشرة شكلت حدثاً غير مسبوق، إلا أنها لا تُشير بالضرورة إلى استغناء الدولتين عن الحروب الاستخباراتية أو بالوكالة، واستبداله بالاشتباك المباشر لخطورة ذلك على كليهما، لكن ذلك لا يُقلل من خطورة الهجمات باعتبارها مستوى جديد في سبيل استعادة الردع.
خاصة في ظل التغيرات الاستراتيجية في العقيدة القتالية لدى طرفي الصراع؛ حيث تنتقل طهران من الدفاع إلى الهجوم، فيما يركز الفكر الإسرائيلي على مهاجمة إيران بدلاً من الاستنزاف في حروب هجينة مع وكلائها، وذلك يُشير أن الدولتين وصلتا إلى نقطة انعطاف؛ سيصبح معها مهاجمة أراضي الآخر أمراً وارداً.