د. محمد عياش الكبيسي يكتب: المقاومة وتوازن القوى

في ظل الجدل الدائر اليوم حول مشروعية المقاومة عند اختلال توازن القوى، أقتبس هذا الموضوع من كتابي (فقه المقاومة) والذي كتبته أثناء الغزو الأمريكي للعراق.

المقاومة وتوازن القوى:

لا يختلف اثنان في شرعية المقاومة التي تهدف إلى رد المعتدي وإخراج المحتل، إلا أن مصطلح (توازن القوى) أخذ يتردد على بعض الألسنة بعد احتلال العراق تحديدا من أجل ثني المقاومين العراقيين وإقناعهم بعدم الجدوى، ومنهم من ذهب بعيدا ليسمي المقاومة (انتحارا) ومن ثم فهي إثم وحرام!!

إن تأثيم المقاومين والمدافعين عن أنفسهم وبلادهم وعقيدتهم وأعراضهم وتخطئتهم دينيا يستحق الوقفة الجادة ليس للدفاع عن المقاومة بقدر ما هو دفاع عن الإسلام نفسه، إذ كيف يتصور أن يكون الإسلام مع الظالم المعتدي على المظلوم المعتدى عليه حتى لو وصلت المواجهة إلى الإبادة، كما قص القرآن علينا قصة أصحاب الأخدود حيث أبيدت الثلة المؤمنة وأحرقت بأخدود النار، ونزل القرآن ليدافع عن المظلومين ويعلي من شأنهم ويندد بالطغاة المجرمين، علما أن هذه النتيجة كانت محسومة للفارق الكبير في ميزان القوى، وربما كان باستطاعة هؤلاء أن يتجنبوا هذه المواجهة بإخفاء إيمانهم، ومثل هذا موقف السحرة الذين تحدوا جبروت فرعون وقالوا كلمتهم بوجهه «فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» (طه /72).

لقد تمسك أصحاب هذه المقولة ببعض الشبهات وأوردوها مورد الأدلة وكلها تدور حول تصور معين لضوابط المصلحة الشرعية كدفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر مع محاولة لدعم هذا التصور ببعض النصوص من مثل قوله تعالى «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وان يكن منكم ألف يغلبوا ألفين باذن الله والله مع الصابرين» (الأنفال/ 66) حيث فهموا من هذه الآية مشروعية الانسحاب من أي مواجهة اذا كان عدد المسلمين أقل من نصف عدد أعدائهم، ولمناقشة هذا التصور بمجمله لننظر في هذه النقاط:

أولا: إذا كان المقصود بهذا النص تحقيق التوازن العددي كما هو ظاهر اللفظ فان هذا لا يصلح دليلا في القضية العراقية حيث إن عدد الرجال القادرين على حمل السلاح في المحافظة الواحدة هو أكثر من كل القوات الغازية، أما إذا كان المقصود توازن القوى والإمكانات فلا شك أن القوات الغازية تتفوق بما لا يحصى ولولا هذا الفارق الكبير لما حصل الاحتلال أصلا، وإذا كان تحقيق هذا التوازن شرطا لشرعية المقاومة فلن تكون هناك مقاومة شرعية على الإطلاق، إذ كيف يتصور وجود احتلال مع وجود توازن في القوى؟!

إن المقاومة لا بد أنها ستعتمد أساليب أخرى غير المواجهة المكشوفة وقد تتمكن من تحويل هذا التفوق إلى ثقل ووبال على الاحتلال نفسه، وهذا ما حصل بالفعل في بلاد الرافدين حيث تحولت الآلة العسكرية الجبارة إلى هدف سهل وصيد ثمين لفرسان الليل الذين يظهرون ويختفون كالأشباح، وهذا ما يفسر عجز الأمريكان عن كبح جماح المقاومة العراقية رغم الإمكانيات الهائلة وخدمات العملاء المتوفرة والأساليب الوحشية التي كشفت للعالم عن الوجه الحقيقي لهذه الإمبراطورية الشريرة.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن توازن القوة وطريقة التعامل معه قضية يقررها ويقدرها العسكريون وخبراء الميدان ولا يجوز للفقيه أن يتدخل في تقرير هذه الأمور وتقديرها، وتأريخ المواجهات بين الشعوب المقاومة والقوات الغازية حافل بالتجارب الناجحة رغم الخلل الكبير في توازن القوى.

ثانيا: من الواضح أن هذه الآية تتحدث عن رخصة وتخفيف وليس عن إلزام شرعي بترك المواجهة ولا أعلم مفسرا أو فقيها قال بهذا، جاء في تفسير ابن عطية: «إنما هو كتخفيف الفطر في السفر وهو لو صام لم يأثم وأجزأه» (ج6 / ص372)، وقال ابن كثير: «إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم»، ونسب هذا إلى ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم (ج1 / ص581) بل ورد عن الأمام الشافعي قوله: «فإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا عنهم» (الأم ج4 / ص169).

ولقد رأيت من الفقهاء من فصل القول في هذا التخيير والتخفيف وأنه ليس على إطلاقه وإنما هو وفق موازين يمكن حسابها وتقديرها بحسب الظروف والأحوال يقول ابن قدامة: «وان كان العدو أكثر من المثلين لم تجب مصابرتهم.. لكن إذا غلب ظنهم الظفر فالأولى لهم الثبات ليحصل لهم الأجر والغنيمة ومسرة المسلمين بظفرهم، وان غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة والنجاة بالفرار فالفرار أولى.. وان ثبتوا جاز لان لهم غرضا في الشهادة، وان غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف فالثبات أولى لتحصل لهم فضيلة الشهداء الصابرين المقبلين.. وان خشوا الأسر قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة ولا يتسلط الكفار على إهانتهم وتعذيبهم» (الكافي ج4 / ص 261). بل جاء في الفقه الحنفي «لو حمل الواحد على جمع عظيم من المشركين فان كان يعلم أنه يصيب بعضهم أو ينكي فيهم نكاية فلا بأس بذلك» (المبسوط ج10 / ص76).

ويمكن أن يضاف إلى هذا أنه إذا كان معنى الآية حرمة المواجهة مع العدو الأقوى ووجوب الانسحاب فكيف سيكون هذا الانسحاب إذا كان العدو يحتل أرضنا؟

والى أين سينسحب المسلمون في العراق؟ ثم ماذا لو امتدت أطماع هؤلاء الأشرار لتشمل الأمة الإسلامية بأسرها؟! ماذا لو استهدفوا مكة والمدينة؟!

ان الدعوة الى رفع الراية البيضاء والاستسلام المجاني سيغري أعداءنا من كل حدب وصوب ليس بالاستيلاء على أرضنا فحسب وإنما بتغيير عقيدتنا وثقافتنا طالما أن هناك من يعتبر مقاومة هؤلاء تهورا وانتحارا غير مسموح به شرعا!! وأغرب من الغريب أن تلبس هذه الدعوة ثوب الحرص على حاضر الأمة ومستقبلها!

ثالثا: ان نظرة سريعة في تاريخ المعارك النبوية ثم الراشدية تعيننا على الفهم الصحيح لهذه الآية ولنأخذ هذه النماذج:

أغلب معارك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحقق فيها التوازن العسكري؛ ففي بدر كان عدد المسلمين أقل من ثلث عدد المشركين، وفي أحد كان عدد المسلمين أقل من الربع، وفي الأحزاب كانوا أقل من الثلث، وفي معركة مؤتة التي كانت على عهد رسول الله وبعلمه كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف بينما بلغ عدد عدوهم مائة وخمسين ألفا وفي بعض الروايات الى مائتي ألف! ومع هذا صبر المسلمون وقاتلوا بقيادة الثلاثة الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بقيادة خالد بن الوليد الذي قاتل ثم نجح بإنقاذ المسلمين وسحبهم إلى المدينة المنورة، ورسول الله يقر القتال والانسحاب ويعلي من مكانة الشهداء الذين سقطوا في تلك المعركة ولم يتهمهم بالتهور رغم أنهم لم يكونوا بوضع دفاعي وكانت وراءهم دولة ممكن أن ينحازوا لها وينظموا صفوفهم فيها من جديد.

وأما في معركة القادسية فلم يصل المسلمون على أعلى الروايات إلى حد الثلث بل بعض الروايات تقول انهم أقل من العشر ويلخص أحد المجاهدين الموقف بقوله «فلما نزلوا – أي الفرس- قالوا لنا ارجعوا فانا لا نرى لكم عددا ولا نرى لكم قوة ولا سلاحا فارجعوا قال قلنا ما نحن براجعين قال وجعلوا يضحكون» (ابن أبي شيبة ج6 / ص556)، وأما التفاوت في معركة اليرموك فكان أكبر بكثير مما عليه في القادسية، فإذا علمنا بعد هذا أن القادسية واليرموك كلاهما لم يكونا جهاد دفع وإنما جهاد طلب وفتح فكيف نتصور حال الصحابة لو اقتحمت عليهم بيوتهم ومساجدهم واستهدفوا في دينهم وأعراضهم؟!

ويدور في خلدي هنا سؤال: ماذا سيقول أصحاب هذه المقولة لو حضروا فتنة الدجال التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي سيأتي بالقوة الخارقة مع المال والذهب والجنة والنار فهل سيفتينا هؤلاء بضرورة التعامل مع الدجال تحقيقا لفقه الموازنات؟! وما الفرق بين الدجال وشارون وبوش؟!

وفي ختام هذه المسألة ولكي لا نتهم بالبعد عن الواقع نقول صحيح إنه وفق منطق القوة لا يمكن أن تهدف المقاومة العراقية إلى تحقيق نصر نهائي على دولة بحجم أمريكا فهذا متروك لقدر الله العلي القدير وما هو على الله ببعيد،

لكن وفق موازين القوى يمكن للمقاومة أن تهدف إلى:

أ- مشاغلة قوات الاحتلال حتى لا يرتفع سلم أطماعها وهذا ما تحقق لحد الآن حيث أجبرت قوات الاحتلال أن تتراجع عن كثير من الأهداف التي صرحت أو لمحت بها بداية الاحتلال مثل تغيير خارطة المنطقة إقامة علاقة تطبيعية بين العراق و (الكيان الغاصب) والتدخل في ثقافة المجتمع وما إلى ذلك.

ب- إقناع هذه القوات الغازية بأن بقاءها في العراق ليس من مصلحتها لأنه سيكلفها كثيرا وسيكسر من سمعتها وهيبتها العالمية سيما إذا استمرت بانتهاك القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان لأن هذا سيقنع الكثير من القوى العالمية الرسمية وغير الرسمية بضرورة التفكير والبحث عن مخرج لهذا التفرد والتعسف الذي يهدد الاستقرار العالمي، وهذا ما بدأنا نلتمس بوادره وهو مقدمة للنصر الحقيقي الذي تنشده المقاومة.

د. محمد عياش الكبيسي

مفكر وداعية إسلامي، دكتوراه في الفقه الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights