د. محمد عياش الكبيسي يكتب: كيف ندرّس العلوم الشرعية؟
الأصل أن الإسلام كلّ لا يتجزّأ، ولكن كما قلنا سابقا: إنه لضرورات التعليم تم تقسيم العلم الشرعي إلى؛ علوم قرآن، وعلوم حديث، وفقه وأصول فقه..الخ، ثم احتجنا إلى علوم الآلة؛ النحو، والصرف، والمنطق..الخ
وقد نتج عن هذا التقسيم تصورات خاطئة كاقتصار مفهوم العبادة على الصلاة والصوم مثلا دون الحقوق الواجبة للآخرين.
واليوم أود التنبيه إلى خطأ فادح وخطير سيفسد التعليم نفسه، حيث أخذ التعليم الشرعي ينحو منحى التخصصات المفصولة عن بعضها، وأخذوا يبالغون في مقولة (احترام التخصص) بطريقة مخيفة.
طالب يقدّم مثلا رسالته (الماجستير) أو (الدكتوراه) في الفقه، فلا يحاسب على أخطائه في النحو والصرف لأن رسالته في الفقه وليست في اللغة! ورأيت بعض المشرفين يوجّه طلابه صراحة لعرض رسالته على خبير لغوي قبل تقديمها للمناقشة!
يعني هذا الطالب سيكون بعد أيام أستاذا في الفقه مع أنه لا يعرف النحو ولا الصرف، ولا يميّز بين المفعول المطلق والمفعول لأجله، ولا بين الحال والتمييز! فعجبي كيف سيتعامل هذا مع مصادر الفقه (القرآن والسنّة) وكيف سيفهم كتب الفقه نفسها؟
وسمعت ولم أرَ أن هناك تساهلا وغضا للطرف عن أخطاء الرسالة في تخريج الحديث والاحتجاج أو الاستشهاد به فالفقيه (المعاصر) ليس بالضرورة أن يحسن التعامل مع صحيح البخاري أو مسند أحمد، أو أن يعرف الصحيح من الضعيف، وما يصح الاحتجاج به وما لا يصح!
حينما كنت أدرس طلابي المنطق، كنت أقول لهم؛ هذا العلم أداة لفهم العلوم الأخرى، فلو أنكم حفظتم كل متونه وشروحه وحواشيه، دون القدرة على تطبيقه فإنكم تحملون عبئا ثقيلا لا فائدة منه، تماما كمن يحفظ الآجرومية أو الألفية ولكنه حين يقرأ لا يفرّق بين الفاعل والمفعول.
كنت أعطيهم القاعدة المنطقية من سطر واحد ثم أكلفهم بعشرات الصفحات لتطبيقها على بقية العلوم، كانوا يشعرون بالمتعة وبجدوى هذا العلم، حتى أن بعضهم وقد كان يقول في بداية الفصل؛ المنطق حرام، وآخر يخفف فيقول: لا فائدة منه، لكني حينما سألتهم في نهاية الفصل؛ ما تقولون في هذا العلم الآن: فردّوا بصوت واحد: واجب.. وبهذا طبّقنا قاعدة منطقية (الحكم على الشيء فرع عن تصوّره).
هكذا تعلّمنا في مدارسنا الأصيلة أن (علوم الآلة) لها منهجية خاصة في تدريسها، خلاصتها أن يتمكن الطالب من تطبيقها واستعمالها في العلوم الأخرى.
أذكر أيضًا ونحن تلاميذ صغار في آصفية الفلوجة كان مدرس الفقه ومدرس الحديث وكل العلوم الأخرى يحاسبوننا على قواعد النحو والصرف، وتنزل درجتنا في ورقة الامتحان على كل خطأ لغوي نقع فيه، ولا أبالغ إذا قلت: لقد كان هذا حتى في درس الجغرافيا.
لقد كانت مدارسنا الأصيلة تطبق عمليا نظرية (التكامل) أو (النسق) أو (البناء المعرفي)، وتضيف على ذلك (البناء التربوي) الذي يبني النفوس والقلوب قبل بناء المعلومات، ويقيم أواصر الثقة والمحبة والأخوّة بين المنتسبين، ويغرس فينا تعظيم الكتاب قبل النظر في مفرداته وتقليب صفحاته.
اليوم حينما تقول هذا الكلام للجامعات (المتطورة) يقال لك: هذه الأمور غير قابلة للقياس! ولأنها غير قابلة للقياس فنحن لا نستطيع أن نحاسب عليها، ومؤدى هذا الكلام معروف؛ يعني يمكن أن يتخرج (فقيه) بلا ذمة ولا ضمير، ويمكن أن تتخرج (فقيهة) سافرة وتدعو إلى السفور.
إن أخطر ما أفرزه التعليم (الشرعي) الحديث؛ هو أن حوّل علوم الإسلام إلى علوم مادية وبمقاييس مادية وغايات وأهداف مادية يعني (تعليم الدين بلا دين)، إضافة لجعلها علوما مقطّعة كالشجرة التي فصلوا جذعها عن جذورها، وفصلوا أغصانها عن جذعها، وفصلوا أوراقها عن أغصانها، ثم استداروا على الثمرة فأفسدوها.
أنا هنا لا أعمم لكنها مع الأسف ظاهرة طاغية، وما أبرّئ نفسي فكلنا شركاء في هذا الاثم المبين، وكل بحسب موقعه ومسؤوليته.
وتسألني: ما الحل؟
ربما بالفعل لا نستطيع أن نفعل أي شيء تجاه هذا الواقع المرير والكئيب، لكن يا إخوة يا أخوات:
إذا كنتم تنتظرون من هذه المؤسسات أن يخرّجوا لكم العلماء المؤتمنين على دين الله فأنتم واهمون. عدا الطلاب الذين خطوا لأنفسهم خطا مستقيما وجادّا للتزود بالعلم بحرصهم ووعيهم واجتهادهم. فهؤلاء هم بيت القصيد، وسفينة النجاة، وعلى الأساتذة المحترمين أن يمنحوا هؤلاء الطلاب كل اهتمامهم ووقتهم وتواصلهم خارج نطاق (المقررات) و (توصيف المقررات).
كل أستاذ يخاف الله ويستشعر المسؤولية عليه أن يتبنى نخبة من طلابه (هو وهم فقط) بلا لجان ولا إعلان، ولا تقارير ولا تصاوير.
فبهذا ربما نسدّ بعض الثغرة، ولعلها أيضًا تكون كفّارة لبعض ذنوبنا وما اقترفناه بحق أنفسنا ومجتمعاتنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم قد بلّغت، اللهم فاشهد..