د. وليد عبد الحي يكتب: نيتنياهو ليس حاكما عربيا
شكل موضوع التكوين السيكولوجي للزعماء وعلاقته بالبيئة السياسية التي يعمل في إطارها نقطة جدل كبيرة بين الفلاسفة والعلماء من افلاطون الى ابن خلدون الى فرويد ولاسويل واريك فروم.. الخ، لكن الاتجاه الأغلب بين هؤلاء جميعا هو أن تجاوز الشخصية والاحتكام في التحليل إلى ثقل الإطار المؤسسي الذي تعمل فيه هذه الشخصية أمر غير ممكن، فهل ستالين وغورباتشوف يمكن اخضاع فهم سلوكهما الى «ثقل» الإطار المؤسسي نفسه فقط؟ وهل وودرو ويلسون يماهيه الإطار المؤسسي الواحد ليكون رونالد ترامب نسخة منه؟ وهل يمكن التغاضي عن عشرات الفروق بين جمال عبد الناصر وأنور السادات؟ أو بين شيمون بيريز ونيتنياهو؟
ولكن وبالمقابل، لا أحد يستطيع تجاوز ثقل الاطار المؤسسي والاجتماعي المحيط بالزعيم، ولكن لا أحد يستطيع انكار أن القدرة على التكيف مع المتغيرات أو النزوع للمواجهة أو المراوغة والمهادنة ترتبط ارتباطا وثيقا بالبنية النفسية للزعيم، وإلا كيف نفسر تباين السلوك السياسي بين زعيم وآخر في نفس النظام السياسي والاجتماعي، فمن المستحيل لأي دارس أن يغض الطرف عن الفرق بين ماوتسي تونغ من ناحية وخليفته دينغ هيساو بنغ من ناحية أخرى مع انهما ينتميان لنفس المجتمع والعقيدة والحزب والقوانين والجغرافيا والموارد بل والحقبة الزمنية، وتتجلى الفروق الفردية بين الزعماء في النزوع السلطوي كالرغبة في التسلط على الآخرين نتيجة لما يقبع في قاع العقل الباطن لكل منهم، أو في الاستلاب الذي يأخذ طابع شعور الفرد أو الزعيم بانهيار ارتباطه بالمجتمع، أو في حب السلطة للتعويض عن مشاعر دونية كامنة، أو عدم القدرة على اجتراح بدائل للموقف نتيجة الجمود العقائدي، وكم من حاكم أعدم فيلسوفا لأنه خرج عن إطار الفكر الواحد للزعيم.
أعود إلى موضوعي وهو السلوك السياسي لنيتنياهو بخاصة في موضوع الحرب في غزة، إذ لفت انتباهي أن هناك تركيز «تجاوز الحد» في الكتابات العربية بخاصة بل وبعض الكتابات الغربية والاسرائيلية على أن الهم المركزي لنيتنياهو هو «تكييف القرارات بما يؤدي إلى تأخير محاكمته أو عزله»، أي أن الأولوية هي دوافع «شخصية لنيتنياهو»، أي أن مصلحة نيتنياهو الفردية تعلو على مصلحة الإطار المؤسسي الذي يعمل من خلاله، وأنه يُكيف معطيات هذا الإطار لتحقيق منافع شخصية وذاتية تحوم كلها حول «البقاء على العرش».
كما أشرت بداية لا يمكن إنكار الدوافع الذاتية للحاكم مهما تدثر بالحس الجمعي أو الوفاء للعقيدة، لكن الأمر يستوجب التنبيه إلى أن هامش الحركة في مجتمعات الاستبداد وغياب المؤسسية متاح أكثر وأيسر من الحالة في مجتمعات مؤسسية تحكمها قوانين ونخب مسئولة وتملأ مناصبها، والحركة الصهيونية أرست قواعد أقرب لقواعد المؤسسات العسكرية، وهو ما سمح من عام 2000 الى 2020 بإلقاء رئيس ورئيس وزراء وعشر وزراء و14 نائبا من الكنيست وحاخامين في السجن لأنهم «تجاوزوا حدود التوازن بين نوازعهم الفردية وبين القيود المؤسسية واجبة الاحترام»..
إن الاستراتيجية الصهيونية المؤسسية بخصوص فلسطين تقوم على «دولة يهودية» في فلسطين، اي دولة لا عرب فيها، والتي كان نيتنياهو أكثر المروجين المعاصرين لها، والاستيطان اليومي هو جهد لتحويل الفكرة إلى واقع شاخص، لكن هذا الأمر بحاجة لأمر آخر وهو «التخلص من 7.3» مليون فلسطيني في فلسطين، وهنا تتوارى نزعات نيتنياهو الفردية لصالح مشروع استراتيجي تديره مؤسسات ونخب فكرية وعسكرية ودينية،
ويكفي أن أعطي مثالين لهما صلة مباشرة بغزة:
المشروع الاول:
مشروع وضعه في أكتوبر الماضي معهد يترأسه مستشار الامن القومي السابق لنيتنياهو «مائير بن شبات» وهو معهد مسغاف (Misgav)، وتتلخص فكرته في شراء المباني الجديدة في مدينتي السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان في القاهرة أو حولها بمبلغ يصل إلى حوالي 8 مليارات لتسكين 1,4 مليون من سكان غزة.
المشروع الثاني:
مشروع تقدمت به وزارة الاستخبارات الإسرائيلية برئاسة جيلا غملائيل (Gila Gamliel) لتهجير سكان غزة إلى صحراء سيناء، وهو إعادة إحياء لمشروع «غيورا أيلاند» القائم على أساس أن تضم إسرائيل أجزاء كبيرة من الضفة الغربية لها مقابل أن تتنازل مصر عن مساحة موازية من سيناء لضمها لغزة وتهجير الفلسطينيين إليها، مع ملاحظة مهمة أن غيورا ايلاند كان مدير شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي وشغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي، أي ان مشروعاته تقع في صلب عمل المؤسسات التي تراسها.
ومن المؤكد أن المشروعين لا يمكن لهما أن ينفذا إلا باجتثاث المقاومة من غزة، ومن هنا تلتقي تصريحات نيتنياهو (بالقضاء على المقاومة ونزع سلاحها في غزة) بمخططات المؤسسة، فإذا نجح ذلك خلال الأعوام القادمة سيبدأ التخطيط لتفريغ الضفة الغربية في الأردن، وهو ما عبرت عنه خرائطهم التي عرضها وزير المالية الإسرائيلي الحالي سموتريتش وضمت الأردن في مؤتمر في باريس في مارس من العام الماضي، وهي ذات التوجهات حول لبنان أيضا من ناحية، وحول دعوات تشجيع دول في العالم على استقبال المهاجرين الفلسطينيين من ناحية اخرى كما يتضح في المشروعين السابق ذكرهما..
ذلك يعني أن معركة رفح التي تدق الابواب ليست مهربا لنتينياهو، بل هي «محاولة قد تفشل وقد تنجح» للسير قدما في بناء الدولة اليهودية في كل فلسطين، وسيتم بموازاة المعركة تأجيج المشاعر في بعض القطاعات العربية بل والفلسطينية على المقاومة وما تسببت به، وهو ما يؤكد ان تصريحات نيتنياهو ليست لمنافع «ذاتية» مطلقة، فهي توافق لا تعلو فيه ذاتيته على «ثقل الإطار المؤسسي» لكنه يستفيد منها بشكل غير مباشر.
إن إسقاط سلوك الزعماء العرب على سلوك نيتنياهو (ما شئت لا ما شاءت الاقدار.. فاحكم فانت الواحد القهار) لا يستقيم في موضوعنا هذا، إن نيتنياهو يعمل في «قفص الصهيونية والقوى الرأسمالية المستفيدة من كيانه»، بينما أمراء الطوائف الجدد من الحكام العرب يكررون نموذج لويس الرابع عشر «أنا الدولة والدولة أنا» وبقي 54 عاما على كرسيها…