د. ياسر عبد التواب يكتب: القواعد الإعلامية المستقاة من الشريعة الإسلامية (1-2)
إن الإعلام الناجح يجب أن يستند إلى قواعد تضبط تلك العملية المؤثرة في المجتمع، ولا يخفى أن لكل شيء قوانينه التي تحكمه.
وهذه محاولة لربط القواعد الشرعية التي ذكرها علماء الشريعة بتطبيقات لها في الواقع الإعلامي، ولقد حرصت على الاختصار بغية تيسير القراءة للإعلاميين.
ومنهجي هو ذكر القاعدة ثم شرح مختصر لها لبيان استخدام العلماء الشرعيين لها ثم النظر إلى القاعدة من ناحية التطبيق الإعلامي لها
ولقد راعيت أن تستمد تلك القواعد من القواعد الفقهية التي هي الأحكام العملية لتستقي منها وضعها العملي وسيتبع الباحث به بحثا آخر عن القواعد الأخلاقية التي يجب أن تضبط عمل الإعلامي
إذن دعونا نبدأ بتحديد موضوع البحث فنقول:
يجيب هذا البحث عن التساؤل التالي:
ماهي القواعد الإعلامية العامة في الشريعة؛ وكيفية اختيار القواعد في عموم الشرع؛ وكيف يمكن الاستفادة من استنباط العلماء القواعد الفقهية في استقراء قواعد شرعية إعلامية
نظرة إلى القواعد في الشريعة الإسلامية
القاعدة في اللغة تعني الأساس قال في لسان العرب: القَواعِدُ: الإِساسُ، وقواعِد البـيت إِساسُه. وفـي التنزيل: وإِذا يَرفَعُ إِبراهيمُ القواعِدَ من البـيت وإِسمعيلُ؛ وفـيه: فأتـى الله بُنـيانَهم من القواعد قال الزجاج: القَواعِدُ أَساطينُ البناء التـي تَعْمِدُه..)
ومعنى ذلك أن هناك أسسا إسلامية تضبط كل أحوال المعاملات وغيرها ومن ذلك العملية الإعلامية كما سنربطها بحديثنا بعد قليل وهي تشبه إلى حد كبير نصوص القوانين التي يحكم بها القضاة
وهذه القواعد معروفة في علوم الشرع حيث تتضح القاعدة من خلال النصوص الشرعية من الكتاب والسنة سواء بنص شرعي أصبح هو في ذاته قاعدة أو باستنباط العلماء للقاعدة بالنظر لتكررها في الشرع وذكرها لمعان معينة وهي فرع مهم من أصول الفقه ويتقنها العلماء
يقول ابن نجيم (معرفة القواعد التي تُرد إليها وفرعوا الأحكام عليها هي أصول الفقه في الحقيقة وبها يرتقي الفقيه إلى درجة الاجتهاد)
إذن القواعد هي أصول الفقه بمعنى أن أصول الفقه هي مجموعة قواعد لذا فقد عرفها أهل العلم بقولهم: العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه على وجه التحقيق)
وقد عرف الشيخ محمد الصالح العثيمين أصول الفقه فقال: (علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد) وذكر في المراد بقوله (الإجمالية) القواعد العامة مثل قولهم الأمر للوجوب والنهي للتحريم فخرج به الأدلة التفصيلية فلا تذكر في الفقه إلا على سبيل التمثيل للقاعدة)
وفي اصطلاح الفقهاء القاعدة: (هي حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته أو أكثرها لتعرف أحكامها منه)
ويذكر الدكتور عبد الكريم زيدان أن تلك القواعد مبثوثة في الكتب ويعرفها العلماء خاصة علماء أصول الفقه ومن ثم الفقهاء أيضا ويبين أنها كثيرة وضابطة وجامعة لمسائل كثيرة فيقول: (وفي الفقه الإسلامي جملة كبيرة من هذه القواعد التي تعتبر كل قاعدة منها ضابطا وجامعا لمسائل فقهية كثيرة)
وأصل هذه القواعد تنبني على علل الأحكام ومعرفة حكمة التشريع
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية:
(وهذه هي مباحث المناسبة والإخالة في مسالك العلة ومبحث المصالح المرسلة ومبحث التواتر والمعلوم بالضرورة ومبحث حمل المطلق على المقيد إذا اتحد الموجب والموجب أو اختلفا)
أمثلة على القواعد المأخوذة من النصوص الشرعية العامة
من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) رواه مسلم
فيعطي الحديث بذلك قاعدة تصلح للتطبيق على كل ما يستجد في موضوع الخمر حتى وإن لم يكن معروفا في ذلك العصر كالمخدرات في عصرنا هذا فالعبرة بحقائق الأشياء وليس بأسمائها
ومن تلك القواعد أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في مسلم أيضا: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) وفي لفظ للبيهقي (ولكن اليمين على المدعي واليمين على من أنكر) قال النووي: وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد الشرع
وعلى هذا يسري حكم هذه القاعدة على كل دعوى ويعطي أصلا أو قانونا يسير عليه كل من تعرض عليه دعوى
وأما الصنف الثاني فهو قواعد تؤخذ من النظر في الشرع كما أسلفنا ومن أمثلة ذلك قاعدة: (الأمور بمقاصدها)
فإنها مأخوذة من عدة أدلة مثل قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه)
فبين أن الإمساك واحد واختلفت النية فصار ميزان الحل والحرمة هنا هو أن الممسك للإضرار ظلم نفسه وارتكب محرما بينما الممسك بمعروف وإن اشترك في نفس الفعل لكنه معذور أو مأجور
وتلك القاعدة أيضا أخذها الفقهاء من الحديث الشريف: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..)
فعندما نظر العلماء إلى هذين الدليلين وغيرهما من الأدلة الشرعية أمكنهم إيجاد تلك القاعدة التي ترسخ مفهوم أن الشخص لا يجوز له التلاعب بالعمل أو اللفظ أو البيع أو الطلاق وغير ذلك لأن النظر العام هنا على النيات
بينما نحن لو نظرنا إلى هذه القاعدة بنظرة كيف يستفيد منه الإعلامي لأمكننا استنباط تطبيقات لها في الإعلام تساهم في ترشيد الإعلاميين والعملية الإعلامية برمتها في توجيه النية فيما يقولونه ويفعلونه لما يرضي الله تعالى
القواعد الإعلامية
سأحاول النظر في كثير من القواعد التي ذكرها العلماء في أصول الفقه فأذكر منها ما له علاقة بالإعلام والضابط الذي يجب استحضاره هنا هو ضابط العلنية الذي يتميز به الإعلام فالإعلام رسالة علنية مقصودة فكل ما له علاقة بالأخلاق والحقوق وله صفة العلنية فيدخل في القواعد الإعلامية التي يجب أن يستحضرها كل الإعلاميين بمن فيهم المذيع والمعد للبرامج الحوارية
وسأبدأ بذكر ما أورده العلماء من قواعد فقهية وأذكر تطبيقها في الإعلام
القواعد الإعلامية المتوافقة مع القواعد الفقهية
القاعدة (1): (الأصل في الكلام الحقيقة) ويلحق بها قاعدة
(إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز)
المعنى عند علماء الشريعة:
أن الحقيقة استعمال اللفظ الذي وضع له ومعناه أن الراجح حمل الكلام على معناه الحقيقي لا المجازي كلما أمكن ذلك وعلى هذا تفسر عقود الناس وتصرفاتهم
وهذا بالطبع ما لم يكن من مدلول الكلام ما يدل على إرادة المعنى المجازي
التطبيق الإعلامي للقاعدة: تحمل تصاريح المسؤولين أو المتحاورين على معناها الأصلي لاسيما عند تعلق هذه التصريحات بأفعال ما وقد يمكن للإعلامي الحاذق استنباط خطورات تالية لاسيما من الإعلام المضاد أو المعادي إذا تعامل مع التصريحات على أن الأصل ليس المجاز
وفي برامج الرأي والحوار تطبق القاعدة بين المتناظرين فتحمل تصريحاتهم وما يلونه على أقرب المحامل للاستخدامات اللغوية
القاعدة (2): الفعل القلبي لا يحكم بوجوده إلا إذا ظهر على الجوارح
المعنى يوضحه علماء الشريعة بمثال في مسائل الحلف والطلاق بأنه لا يتم طلاق امرأة قال لها زوجها لما تزوج غيرها: إن غرت فأنت طالق وغارت بقلبها ولم تظهر ذلك بجوارحها ولا بلسانها
التطبيق الإعلامي للقاعدة:
لا يجوز لإعلامي -مذيعا أو كاتبا- أن يتهم شخصا ما بتهمة أو يدعي اعتناقه لفكر أو عقيدة أو ينسبه لجماعة ما لم يملك دليلا على ذلك من كتابة أو تصريح أو فعل (أعمال الجوارح أو اللسان)
وهذا من عدل الإسلام وإنصافه للآخرين
القاعدة (3): إعمال الكلام أولى من إهماله
المعنى عند العلماء:
أنه لا يجوز إهمال الكلام واعتباره دون معنى ما أمكنه حمله على معنى حقيقي أو مجازي ، وبما أن الأصل في الكلام الحقيقة فمالم يتعذر حمل الكلام على معناه الحقيقي لا يحمل على المجاز
ومثال ذلك أنه لو أقر شخص لآخر بدين قيمته مائة مثلا وأعطاه سندا بذلك دون أن يذكر سببا لذلك ثم عاد وأعطاه سندا آخر بنفس القيمة ولم يبين فيه سببا يحمل عليه السند الأول فإن الفعل يحمل على الإقرار بدين جديد ولا يقال إن تشابه القيمة تعني أنه نفس الدين لأنه لم يفسر ذلك وإعمال الكلام أولى من إهماله
التطبيق الإعلامي للقاعدة:
يراعي الإعلامي الدقة فيما ينسب للآخرين وينتبه إلى الفروق بين الكلمات والتصريحات وينتبه إلى الفرق الزمني بين التصريحات وأنه إن وجد فرقا بين تصريحين أو جملتين فأولى به ألا يجمل التصريحين أو المعلومتين في معنى واحد بل ربما يكون بينهما فرق يظهر له عند التأمل فإعمال الكلام أولى من إهماله بينما إن تعذر حمل الكلام على المعاني الحقيقية ولا المجازية فإنه يصير لغوا لا يلتفت إليه أصلا كما ذكر ذلك العلماء في شرحهم للقاعدة السابقة
القاعدة (4): لا ينسب لساكت قول – لكن السكوت في معرض الحاجة بيان
وشطر هذه القاعدة الأول (لا ينسب لساكت قول) هو من كلام الإمام الشافعي رحمه الله
المعنى عند علماء الشريعة:
لا يجوز أن يقول الساكت ما لم يقله فيقال بأنه قال كذا فلو رأى غيره يتلف ماله فسكت لا يكون إذنا له بإتلافه كم أن سكوت امرأة العنين لا يعتبر رضا منها ولو أقامت معه سنين
أما السكوت في معرض الحاجة بيان فمعناه أن السكوت فيما يلزم التكلم به إقرار وبيان مثل سكوت البكر عند استئمار الولي لها بالزواج يعتبر منها رضا وسكوت المستأجر عند إخبار المالك له بالأجرة وانتقاله للدار وسكناه فيها يعني ضمنا الإقرار
ومن ذلك سكوت الزوج عند الولادة وتهنئته بالمولود يعبر إقرارا بنسبه
التطبيق الإعلامي للقاعدة:
ليس كل من سكت على ظلم يعتبر مقرا له فقد يكون مكرها أو خائفا أو مستحيا أو له اعتبارات معنوية أخرى، فلا يأخذ الإعلامي سكوت شخص على شيء دليلا على رضاه أو إقراره فينسب له بناء على ذلك أقوالا ويبني استنتاجات
أما إن سكت بشكل يفهم منه إقراره بما يقال فإن غاية ما يستنتجه الإعلامي هو إقرار الشخص بما يقال وليس بلوازم قوله أي ما يستنتج منه نظرا لأنه قد يكون غافلا عن لوازم القول وإلا تعدى إلى تقويله ما لم يقله.
يُتبع>>>