د. ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: في كل واد يهيمون (3)
في هذه المرة؛ هيا بنا أريكم نماذج من هذه الأودية التي يهيم فيها الشعراء بناء على ما ذكرناه فيما تقدم في مقالين سابقين.
فأما ما يمكن أن أجعله نموذجًا عامًا على التخييل والتّوهم الذي هو ركيزة الشعر ومحوره الأساس؛ فهو أبيات قيس بن المُلَوِّح الذي حاول أن يقنع نفسه لما رأي الخضاب في يدي معشوقته ليلى العامرية بعدما رجع من سفر له، فراح يقنع نفسه بسبب ذلك الخضاب -وكانت النساء لا تخضب إلا في عُرس- فقال:
ولما تلاقينا على سَفْحِ رامةٍ
وجدتُ بنان العامرية أحمرا
فقلتُ: خضبتِ الكف بعد فراقنا؟
فقالت: معاذ الله ذلك ما جرى
ولكنني لما رأيتك راحلاً
بكيت دمًا حتًى بللت به الثرى
مسحتُ بأطراف البنان مدامعي
فصار خضاباً بالأكف كما ترى!
وأما عمرو بن كلثوم فراح يهيم في وادي قبيلته مفتخرًا ومفاخرًا؛ فيقول:
وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مِنْ مَعَدٍّ
إِذَا قُبَـبٌ بِأَبطَحِهَا بُنِيْنَا
بِأَنَّا المُطْعِمُوْنَ إِذَا قَدَرْنَا
وَأَنَّا المُهْلِكُوْنَ إِذَا ابْتُلِيْنَا
وَأَنَّا المَانِعُوْنَ لِمَا أَرَدْنَا
وَأَنَّا النَّازِلُوْنَ بِحَيْثُ شِيْنَا
وَأَنَّا التَارِكُوْنَ إِذَا سَخِطْنَا
وَأَنَّا الآخِذُوْنَ إِذَا رَضِيْنَا
وَأَنَّا العَاصِمُوْنَ إِذَا أُطِعْنَا
وَأَنَّا العَازِمُوْنَ إِذَا عُصِيْنَا
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْواً
وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَا
أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي الطَّمَّاحِ عَنَّا
وَدُعْمِيَّا فَكَيْفَ وَجَدْتُمُوْنَا
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا
أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِيْنَا
مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا
وَظَهرَ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا
إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا صَبِيٌّ
تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِديْنَا
ويهيم عنترة في وادي نفسه واعتداده بفروسيته فحسب فيقول:
إن تغدفي دوني القناع فإنني
طبٌ بأخذ الفارس المستلئمِ
أثني عليّ بما علمت فإنني
سمحٌ مخالقتي إذا لم أُظلمِ
وإذا ظُلمت فإن ظلمي باسلٌ
مرٌ مذاقته كطعم العلقمِ
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر بالمشوف المعلمِ
بزجاجةٍ صفراء ذات أسرةٍ
قرنت بأزهر في الشمال مفدمِ
فإذا شربت فإنني مستهلكٌ
مالي وعرضي وافرٌ لم يكلمِ
وإذا صحوت فما أقصر عن ندىً
وكما علمتِ شمائلي وتكرمي
وأما عُمَر بن أبي ربيعة فيهيم في وادي غروره من كونه معشوق النساء الأول والأخير، وأنَّهنّ يتغزلن به في حضوره ويذكرنه في غيابه؛ فيقول:
بَينَما يَذكُرنَني أَبصَرنَني
دونَ قَيدِ المَيلِ يَعدو بي الأَغَر
قالَتِ الكُبرى أَتَعرِفنَ الفَتى
قالَتِ الوُسطى نَعَم هَذا عُمَر
قالَتِ الصُغرى وَقَد تَيَّمتُها
قَد عَرَفناهُ وَهَل يَخفى القَمَر
ويبلغ الغرور به مبلغا عندما يتصور أنه يفسد -بجماله- على العابدات من النساء عبادتهن؛ ولو كُنّ طائفات بالبيت الحرام في الحجّ؛ فيقول:
قالَت لِتِربٍ لَها تُحَدِّثُها
لَتُفسِدِنَّ الطَوافَ في عُمَرِ
قومي تَصَدَّي لَهُ لِيُبصِرَنا
ثُمَّ اِغمُزيهِ يا أُختُ في خَفَرِ
قالَت لَها قَد غَمَزتُهُ فَأَبى
ثُمَّ اِسبَطَرَّت تَسعى عَلى أَثَري
وفي المرة القادمة إن شاء الله نستكمل تلك النماذج من الأودية التي ذكر الله سبحانه أن الشعراء فيها يهيمون.