رواية في كُبّاية: “قشتمر” للروائي العربي العالمي “نجيب محفوظ”

“قشتمر” هي آخر رواية طويلة كتبها الأديب المصري نجيب محفوظ، ونُشرت لأول مرة عام 1988م.
تدور أحداثها حول خمسة أصدقاء تربطهم علاقة وطيدة منذ الطفولة، عاشوا حياتهم في حي العباسية بالقاهرة، وكان مقهى “قشتمر” ملتقاهم الدائم. هؤلاء الأصدقاء هم: صادق صفوان، الشاب المتدين التاجر؛ حمادة الحلواني، الثري المتقلب المزاج؛ طاهر عبيد الأرملاوي، الشاعر الناجح من أسرة موسرة؛ إسماعيل قدري، الطالب المجتهد من أصول فقيرة؛ والراوي الذي يمثل صوت محفوظ في سرد الأحداث.
تمتد الرواية على مدار سبعين عامًا تقريبًا، ترصد خلالها تحولات المجتمع المصري منذ ما قبل ثورة 1919م، حتى عصر السادات، مع التركيز على الصداقة كمحور رئيسي يربط بين الشخصيات رغم اختلاف توجهاتهم الاجتماعية والسياسية.
تحليل شامل للرواية
“قشتمر” تتميز بأسلوب نجيب محفوظ المعروف بالبساطة والعمق في آن واحد، حيث ينسج من خلالها لوحة واقعية للحياة المصرية عبر عقود متتالية.
الرواية ليست مجرد سرد لقصة صداقة، بل هي تأريخ اجتماعي وسياسي لمصر، يعكس التغيرات الكبرى التي مرت بها البلاد، من الاحتلال البريطاني إلى ثورة يوليو 1952م، وصولاً إلى مرحلة ما بعد عبد الناصر.
المقهى، الذي يحمل اسم الرواية، ليس مجرد مكان للتجمع، بل رمز للثبات وسط عالم متغير، حيث يمثل نقطة تلاقٍ للأفكار والذكريات والصراعات.
الشخصيات في “قشتمر” متنوعة ومتميزة، تمثل شرائح مختلفة من المجتمع المصري. صادق صفوان يجسد الطبقة الوسطى المتدينة التي تعتمد على التجارة كوسيلة للارتقاء، بينما يعكس حمادة الحلواني الطبقة الأرستقراطية المتحررة التي تتأثر بتقلبات الحياة. طاهر عبيد، الشاعر، يمثل المثقف الذي يعاني من صراع بين طموحه الفني وتوقعات عائلته، وإسماعيل قدري يجسد الشاب الطموح الذي يكافح الفقر لتحقيق حلمه بالتعليم. هذا التنوع يعكس قدرة محفوظ على رسم شخصيات متعددة الأبعاد، تجمع بين الفردية والتمثيل الاجتماعي.
لغة الرواية تجمع بين الفصحى السهلة والحوارات التي تحمل نكهة العامية المصرية، مما يضفي عليها طابعًا واقعيًا ودافئًا.
كما أن السرد يتسم بالتدفق الزمني الذي يمزج بين الماضي والحاضر، مستخدمًا تقنية الراوي الشاهد الذي يعيش الأحداث ويرويها بأسلوب شاعري وحنيني في بعض الأحيان.
علاقة “قشتمر” بالأدب الثوري
الأدب الثوري يُعرف عادةً بتركيزه على التغيير الاجتماعي والسياسي، وغالبًا ما يرتبط بالدعوة إلى الثورة أو نقد الأوضاع القائمة بشكل مباشر. في هذا السياق، يمكن قراءة “قشتمر” كجزء من الأدب الثوري بشكل غير مباشر، لأنها لا تقدم دعوة صريحة للثورة، بل تسجل انعكاسات الثورات والتحولات السياسية على حياة الأفراد. نجيب محفوظ، المعروف بأعماله الواقعية، لا يتبنى موقفًا ثوريًا متطرفًا في “قشتمر”، بل يرصد الثورة كجزء من التاريخ الذي يشكل مصائر الشخصيات.
في الرواية، تظهر ثورة 1919 كخلفية تاريخية تشكل وعي الأصدقاء في طفولتهم، بينما تأتي ثورة يوليو 1952 كحدث محوري يؤثر على حياتهم اللاحقة. على سبيل المثال، نرى كيف يتأثر طاهر عبيد بصعود عبد الناصر، حيث يزدهر أدبه في تلك الفترة، ثم يعاني من التهميش بعد وفاة الزعيم. كذلك، يعكس موقف إسماعيل قدري من المظاهرات والأحزاب السياسية روح الشباب الثوري الذي يسعى للتغيير رغم العوائق.
هذه الأحداث تجعل “قشتمر” رواية تسجل الثورة من منظور إنساني، بعيدًا عن الشعارات السياسية المباشرة، مما يتماشى مع نهج محفوظ في تقديم الواقع دون تزييف أو تهويل.
بالمقارنة مع أعمال ثورية صريحة مثل “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي، التي تركز على الصراع الطبقي والثورة الفلاحية، فإن “قشتمر” تقدم رؤية أكثر تأملية وأقل مواجهة. لكنها تشترك مع الأدب الثوري في تصويرها للظلم الاجتماعي والفوارق الطبقية، كما في حالة إسماعيل الذي يعاني من الفقر، أو حمادة الذي يعيش حياة مترفة دون هدف. هذا التناقض يعكس نقدًا ضمنيًا للمجتمع، وهو عنصر أساسي في الأدب الثوري.
الخلاصة
“قشتمر” ليست مجرد رواية عن الصداقة، بل هي عمل أدبي يجمع بين السيرة الذاتية، التأريخ الاجتماعي، والتأمل الفلسفي في الزمن والمكان. علاقتها بالأدب الثوري تكمن في رصدها لتأثير الأحداث الثورية على حياة الأفراد، دون أن تتبنى خطابًا ثوريًا مباشرًا، مما يجعلها نموذجًا فريدًا في إطار الأدب المصري الحديث. الرواية تترك القارئ مع شعور بالحنين والتأمل في قيمة العلاقات الإنسانية وسط عالم متغير، وتبقى شاهدة على عبقرية نجيب محفوظ في التقاط تفاصيل الحياة وتحويلها إلى فن خالد.