بحوث ودراسات

صفقة القرن بين الماضي والحاضر: قراءة تحليلية في الطرح الجديد لترامب

أحمد هلال

في مشهد عبقري بامتياز أخرجت حماس مراسم احتفالية تسليم وتبادل الأسرى، وكان كل شيء في مكانه يرسل رسالة واضحة ومختلفة في كل زاوية من زوايا الاحتفالية الأسطورة!!

وكما أبدعت المقاومة في الصمود وارغمت الجيش الإسرائيلي على قبول الهدنة فإنها كذلك أعادت تأهيل ميادين غزة الشهيرة والتي دمرها العدوان ليكون مسرحا للاحتفال بالنصر وارغام المحتل على التوقيع على التبادل من فوق طاولة المقاومة!!

تزينت الاسيرات وكأنهن عائدات من سياحة أو تدريب أو مارثون رياضي ومن بعده النياشين وشهادات التقدير أو شهادات التخرج والميداليات.

وسط تلك الفرحة والزهو والنصر خرجت تصريحات ترامب النشاز.

تثير عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحديث عن صفقة القرن مجددًا، وخصوصًا مقترحه تهجير سكان قطاع غزة إلى إندونيسيا، جدلاً واسعًا حول أبعاد هذه الخطة وطبيعة أهدافها. هذا المقال يتناول الأبعاد التاريخية لصفقة القرن، تطورها قبل السابع من أكتوبر، وتحولاتها بعد وقف إطلاق النار الأخير بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، مع تحليل موقف الأطراف المعنية ومدى إمكانية نجاح هذه الصفقة.

الأبعاد التاريخية لصفقة القرن

طرحت صفقة القرن لأول مرة في عهد ترامب (2017-2020) كخطة لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بهدف تحقيق «سلام دائم» في المنطقة. تضمنت الخطة دعمًا مطلقًا لإسرائيل، عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لها، والسعي لإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتوطينهم في الدول المضيفة. ركزت الصفقة على إضعاف القضية الفلسطينية وتهميشها إقليميًا ودوليًا من خلال التطبيع مع دول عربية وإسلامية.

صفقة القرن قبل السابع من أكتوبر: المرتكزات والأهداف

قبل اندلاع «طوفان الأقصى»، كانت الصفقة تقوم على محاور رئيسية:

1- إضعاف المقاومة الفلسطينية: سعت الإدارة الأمريكية حينها لإجهاض المقاومة المسلحة، سواء عبر الحصار الاقتصادي أو الضغط السياسي.

2- التطبيع العربي: جرى استقطاب دول عربية عدة للتطبيع مع إسرائيل، مثل الإمارات والبحرين، لتوسيع دائرة القبول الإقليمي بإسرائيل.

3- تقويض سيادة المقاومة الفلسطينية: اعتمدت الخطة على تقوية الجانب الإسرائيلي وإضعاف القيادة في المقاومة الفلسطينية.

كان الهدف الأساسي هو فرض واقع جديد يجعل القضية الفلسطينية ملفًا ثانويًا، مع التركيز على المصالح الاقتصادية بدلاً من الحقوق الوطنية.

صفقة القرن بعد وقف إطلاق النار الأخير

بعد وقف إطلاق النار في أعقاب «طوفان الأقصى»، برزت تحولات جديدة في الحديث عن الصفقة. طرح ترامب تهجير سكان غزة إلى إندونيسيا كمقترح جديد أثار استياء واسعًا. هذه الفكرة تعكس تحولًا نحو سياسات التهجير القسري، وهي خطوة تعيد إلى الأذهان نكبة 1948. المثير للجدل أن هذه الخطة تتزامن مع جهود دولية لإعادة إعمار غزة، مما يطرح تساؤلات حول تناقض الأجندة الدولية.

رد فعل المواطنين في غزة

عودة النازحين من جنوب غزة إلى شمالها.. كان رد المواطنين في غزة

مشهد يعلو كل المشاهد.. فالعودة سيرا على الأقدام بداية ما لا يقل عن 6 كيلو مترات حتى يصلوا إلى ما يمكن أن يركبوه للوصول إلى دورهم..

إنهم لا يسيرون سيرا عاديا بل سعيا، وربما قفزا وكأن أقدامهم ليست التي تسير..

اهازيج الفرح وبشريات النصر والاحتفال بالعودة وطوفان بشري يقدر بمليون نازح من الشمال، أمام الشاشات الآن يعودون آلافا آلافا، يحملون متاعهم على ظهورهم، الفرحة تعلو وجوههم وكأنهم ذاهبون لصلاة العيد، يكبرون تكبيرات العيد، يدق بعضهم الدفوف بأهازيج النصر، ابتسامة وفرحة عارمة مع السعي القافز نحو الدار حتى وإن كانت دمار، وأقوال تؤكد على التعمير للركام، إلا أنهم باقون.. عائدون.. غير مفرطين، ولا متهاونين في حق العودة.. فلا إرادة لهم ستُكسر، ولا عزيمة لهم ستُفتر..

بدمائهم سطروا نقشا على وجه الأرض انتصارا، انتُزعَ نزعا بكل عزة وكرامة..

يشعر سكان غزة بالقلق والغضب من هذا الطرح، إذ يرون فيه محاولة لإفراغ القطاع من أهله والقضاء على حق العودة. يعاني الغزيون من حصار خانق، ومع ذلك يتمسكون بأرضهم كجزء من هويتهم الوطنية والدينية، ويرفضون أي حلول تتجاهل حقهم في تقرير المصير. ردود فعل تلقائية وعفوية، ورسائلهم السياسية، وصلت إلى ترامب ونتنياهو.

موقف حماس من الصفقة

منذ البداية، رفضت حركة حماس أي مقترحات تتعلق بصفقة القرن. ترى الحركة أن الطرح الجديد يأتي في سياق محاولات لإضعاف المقاومة وتهجير الفلسطينيين. كما تعتبره انتهاكًا صارخًا للحقوق الفلسطينية واستمرارًا للنهج الاستيطاني التوسعي.

أكدت المقاومة الفلسطينية على تكرار أحداث النكبة سار تاريخا لا يمكن تكراره من جديد!!

مدى إمكانية نجاح الصفقة ودور المقاومة في إحباطها

تعترض صفقة القرن عقبات كبيرة، أبرزها:

1- تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه: سواء داخل غزة أو في الشتات.

2- قوة المقاومة المسلحة: أثبتت المقاومة قدرتها على مواجهة الاحتلال وإرباك حساباته، مما يجعل تهجير السكان أمرًا صعبًا.

3- الدعم الشعبي والدولي للقضية الفلسطينية: رغم محاولات التهميش، لا تزال القضية الفلسطينية تحظى بتأييد واسع عالميًا.

المقاومة الفلسطينية لعبت دورًا محوريًا في إفشال محاولات تصفية القضية. ومن المتوقع أن تواصل هذا الدور، خصوصًا مع تصاعد الدعم الشعبي لها في الضفة وغزة والخارج.

أعاد الرئيس دونالد ترامب التواصل مع الأردن ومصر بشأن تجديد صفقة القرن واستقبال عدد كبير من سكان غزة بديلا عن فكرة التهجير إلى إندونيسيا، لكن تلك الدعوات الفارغة لم تستحق سوى مشهد العودة الرائع الذي خرج بعفوية وتلقائية من الجنوب إلى الشمال في تظاهرة حب تعكس مدى استيعاب الشعب الفلسطيني في غزة أبعاد تلك الدعوات وأهدافها.

ومن هنا التأكيد على أن فهم الشعوب للتحديات يعتبر عنصر من عناصر البقاء والمواجهة يعزز دور المقاومة ويؤكد إفشال محاولات تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ملف إنساني هامشي، ويعيد القضية الفلسطينية على الساحة السياسية الدولية والإقليمية من جديد.

الغرض من التمسك بالصفقة وإعادة طرحها

إعادة طرح الصفقة تعكس رغبة أمريكية-إسرائيلية في استغلال الظروف الإقليمية والدولية لتحقيق مكاسب استراتيجية، منها:

1- إبعاد الأنظار عن الفشل الإسرائيلي في احتواء المقاومة.

2- توسيع التطبيع الإقليمي، خصوصًا مع دول شرق آسيا.

3- تصفية القضية الفلسطينية عبر طروحات غير واقعية، مثل التهجير والتوطين.

صفقة القرن، بمختلف أطوارها، تعبر عن مشروع استعماري هدفه تصفية الحقوق الفلسطينية. ومع ذلك، يقف الفلسطينيون في وجه هذه المحاولات بإرادة قوية، مدعومة بالمقاومة والصمود الشعبي. يبقى نجاح الصفقة مرهونًا بقدرة القوى الدولية والإقليمية على فرضها، وهو أمر يبدو مستبعدًا في ظل ثبات الفلسطينيين ومواقفهم الوطنية الرافضة لأي تنازل عن الأرض والحقوق.

ردود فعل أمريكا وإسرائيل المحتملة

من المحتمل أن تعرقل أمريكا وإسرائيل جهود إعمار قطاع غزة كوسيلة للضغط على سكان القطاع، بهدف دفعهم نحو قبول فكرة التهجير أو التوطين. هذه السياسة تأتي ضمن استراتيجيات الخنق الاقتصادي والسياسي التي تهدف إلى خلق بيئة معيشية غير مستقرة تدفع السكان للشعور بعدم جدوى البقاء في القطاع.

كيفية عرقلة جهود الإعمار

1- التضييق على المعابر والمساعدات: إسرائيل تسيطر على معظم المعابر الحدودية، ويمكن أن تضع شروطًا قاسية لدخول مواد البناء والمساعدات الإنسانية.

2- الضغط على المانحين الدوليين: من خلال النفوذ الأمريكي، يمكن تقليص أو تعطيل تمويل مشاريع الإعمار أو تحويلها إلى أهداف سياسية.

3- توسيع العمليات العسكرية: استمرار الاستفزازات الإسرائيلية قد يعيد تدمير ما يتم إعادة بنائه في غزة، مما يعزز حالة الإحباط واليأس بين السكان.

المبررات الإنسانية التي قد تُستغل لتمرير الصفقة

يمكن لأمريكا ومصر والأردن الترويج لمشروع التهجير عبر خطاب إنساني يخفي الأبعاد السياسية الحقيقية،

ومن أبرز هذه المبررات:

1- تحسين جودة الحياة: الترويج بأن تهجير سكان غزة إلى مناطق جديدة سيحسن من أوضاعهم المعيشية ويوفر لهم فرص عمل وخدمات تعليمية وصحية أفضل.

2- الهروب من الصراعات: تصوير غزة كمنطقة غير آمنة بسبب الحروب المتكررة مع إسرائيل، والادعاء بأن التهجير هو الحل الوحيد لتوفير الأمن والسلام لسكانها.

3- الأزمة البيئية: يمكن تسليط الضوء على الكارثة البيئية في غزة، مثل أزمة المياه الملوثة ونقص الموارد الطبيعية، كذريعة للقول إن بقاء السكان في القطاع بات مستحيلاً.

4- الحاجة إلى الإعمار الشامل: تقديم تهجير السكان كخيار “مؤقت” لتمكين إعادة الإعمار بشكل أفضل دون قيود الحصار الإسرائيلي.

5- البعد الإقليمي: الادعاء بأن دولًا مثل مصر والأردن ستتحمل عبء اللاجئين وتوفر لهم حياة كريمة، مما يمنح الخطة طابعًا تضامنيًا وإنسانيًا.

 لماذا قد تفشل هذه المبررات؟

رغم المحاولات لإضفاء طابع إنساني على هذه الخطة، فإنها تواجه تحديات كبيرة:

رفض الفلسطينيين: سكان غزة متمسكون بأرضهم رغم المعاناة، ويدركون أن هذه الخطط تهدف لتصفية قضيتهم الوطنية.

الشكوك الدولية: أي خطة تهجير ستكون مكشوفة للمجتمع الدولي، مما سيزيد الانتقادات والضغوط على أمريكا وإسرائيل.

مواقف المقاومة: لن تسمح فصائل المقاومة بتمرير أي مشروع يهدد وجود الشعب الفلسطيني في أرضه.

ورغم الرفض الرسمي للخارجية المصرية والاردنية فإن احتمالية

عرقلة الإعمار وطرح خطط تهجير مغلفة بالمبررات الإنسانية هما جزء من استراتيجية لتصفية القضية الفلسطينية، ولكن وعي الشعب الفلسطيني ومقاومته لهذا المخطط سيشكل حاجزًا كبيرًا أمام نجاحه.

 الدعم الدولي والإقليمي المساند لحقوق الفلسطينيين قد يكون له دور محوري في منع تمرير مثل هذه المخططات، خاصة إذا أُدركت أبعادها الحقيقية.

أستطيع تأكيد أن تصريحات ترامب المتجدّدة حول التهجير وصفقة القرن بمجرد زوبعة في فنجان لتغطية صخب الاحتفالات في غزة والتخفيف من حدة الصدمة التي اخترقت جدار الداخل الإسرائيلي المنهزم.

ولا تزال تداعيات الحرب ووقف إطلاق النار الأخير تضرب عمق الداخل الإسرائيلي ويتغير معها المشهد السياسي المحتمل معه سقوط الحكومة الإسرائيلية.

أحمد هلال

حقوقي وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights