مقالات

صلاح المكاوي يكتب: العُمْـدَة

قليلٌ هم الذين يعْلَقون بالذاكرة، ويُنقشون على صفحات الحياة ومعتركاتها بملامحهم البارزة وبصماتهم المضيئة وخطواتهم المطبوعة في كل طريق.

إنه ابن قرية «البوها» العمدة (حامد فرج)؛

تلك الشخصية الفريدة التي حباها الله مواهبَ خاصة وسمات مُتفرّدة؛ فقد زاده الله بسْطةً في الجسم والفهم، فبدا بائنًا ذا مهابة ووقار، يدبُّ بمِنسأته في كلِّ فجٍّ ومسار!

لقد وهبه الله صوتًا جهْوريًا يُجبرُ الكل على سماعه، وخِفّةَ ظلٍّ ووجهًا بشوشًا، وطَلّةً بهيّةً تُجبرك على مُجالسته والسماع له،

اختلف معه البعضُ بسبب بعض الأمور والتوجّهات، لكنها لم تلبث أن تغوص في بحر عطاءاته، ومجالس صلحه وحبه للمساجد والقرآن وأهله.

لقد جبله الله على حب الخير للناس وقضاء حوائجهم، لم يعش لنفسه بل كرّسَ حياته كلها لغيره؛

حُرِم الولدُ والذريّة فدأب يُصلح الأسر من التفكك والضياع، وشرع في الحفاظ عليها، وجعل من كل أبناء القرية أبناءه الذين لم ينجبهم!

لقد كنتُ جليسه يوما في مجلس صلح امتد حتى قُبيل أذان الفجر لم يذق خلالها طعاما إلا النزر اليسير وبعض الماء وهو المريض، واستحكم الطلاق على الجلسة وانتفش الشيطان وأملى وساوسه ونفث سمومه، ولكنه لم يقم من مجلسه وأخذ يرفع عقيرتَه ويقبّل يدا هذا وقدم ذاك، وانبرى باكيًا يقول: أنا لم أنجب وتلك ابنتي وأنا متكفلٌ بكل ماتقصر أيديكم عنه من نفقات، واستحال المجلس من طلاق وفراق إلى بكاء وعناق، وأنقذ بسعة صدره  وحِلمه أسرةٕ من الضياع بسبب ماديات زائلة وسقْطٍ من متاع؛ فبكيتُ فرحًا وقلتُ لنفسي: لله درك! أي صِنفٍ من الرجال أنت؟!

العمدة حامد فرج

لقد عهدناه مشرقًا في المحافل والمناسبات، يرتقي المنصّات ويدلى بدلوه حتى ولو لم يُخرج من الماء إلا النزر اليسير، ولكنه يبقى ذا طعمٍ سائغٍ ببساطته وتلقائيته المعهودة، فقد كان كلامه ينساب بسهولة ويسر، ويمر على العقول بسلاسة وأريحية؛ فيترك أثرًا طيبا في النفس، وابتسامةً ترتسم على الشفاه.

لم يكن هو العمدة الحقيقي، بل هو لقبٌ التصق به وأبى أن يفارقه حتى مماته، ناداه به أهل قريته عن جدارة واستحقاق؛ لما وجدوا فيه من قربٍ واستجابةٍ لنداءاتهم وفضٍّ لمنازعاتهم فـ «خيركم خيركم لأهله» ولقد كان كذلك وإنا على ذلك لمن الشاهدين، فزيّن بأفعاله اللقبَ وزانَه،

جرّدَ نفسه من حُطام الدنيا وباع كل ما يملك حِسبةً لله، فابتنى المسجدَ ووصلَ إخوتَه وذويه، وعاش يومه بسيطًا، يجالسُ الناس ويهنأ معهم بكوب شاي هنا ودعوةٍ لطعام هناك مصحوبةً بالضحكات والمسرّات.

شاطر أهل قريته أفراحهم وأتراحهم وجُلِّ مناسباتهم بحضور أخّاذ، فبرز في المجالس وامتاز.

رحم الله الرجل بقدر ما أعطى وبقدر ماحُرِم!

 رحِمَ الله الرجل بقدر ماسعى بين الناس لإصلاح ذات البين ونشر السلام، ورأب الصدع ورتْق ماتمزّق من عُرى المحبة والوئام!

رحم الله الرجل بقدر ماسعى في إعمار بيوت الله والتفاني في استكمالها.

رحِمَ الله الرجل بقد وصله ووده، وكذا نشر البهحة والمحبة والسعادة بين الناس!

رحم الله الرجل بقدر احترامه للصغير وتوقيره للكبير وتجرُّده من النقير والقطمير!

فإلى رحاب المولى الكريم، وإن حُرِمتَ في الدنيا فما عند الله خير وأبقى.

اللهم يمّن كتابه ويسر حسابه، وثقل بالحسنات ميزانه وثبّت على الصراط أقدامه، وأسكنه في أعالي الجنات بجوار حبيبك ومصطفاك!

 اللهم أنزل عليه شآبيب الرحمات، وسحائب المغفرة والثّبات، وهواطل المسرّات والخيرات!

اللهم اجزه عن الإحسان إحسانا وعن الإساءة عفوًا وغفرانا

اللهم أنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى