عامر شماخ يكتب: زمن التفاهة!
حكى أستاذ جامعي، نجل سياسي كبير في عهد «مبارك»، أنه كان عائدًا على متن طائرة من إحدى الدول الغربية، وصادف أن كان معه في الرحلة نفسها مطرب مشهور، الذي ما إن رآه الركاب حتى أحاطوه جميعًا ليأخذوا معه «السيلفي» ولينالوا شرف مصافحته والحديث معه..
يقول الأكاديمي؛ قلت في نفسي متحسرًا: ليتني ما حصلت على الماجستير والدكتوراه وعملت في سلك التدريس العالي، وليتني صرت مطربًا كـ«فلان» الذي لم يقف مثلى في طابور «ختم الجوازات» عند وصولنا مطار القاهرة؛ إذ مثلما احتفى به الركاب في الجو احتفى به «الضباط» على الأرض، وخرج منتشيًا وسط ما يشبه المظاهرة، بينما سُئل العبد لله بعد تفتيش دقيق لحقيبته: أين كنت؟ ولماذا؟ وأي مؤتمر حضرت؟ في حين خرجتْ «حقائب المغنى» الكثيرة دون أن تُمسّ.
والقصة تجسِّد واقعًا مريرًا، يحمل كثيرًا من دلالات الضياع وانقلاب الموازين، في بلد عزَّ فيه الوضيع وأُهين فيه الشريف ولا مكان فيه للعظماء والحكماء وذوي المواهب الجادة. أما إن أردت إثبات ذلك فاستمع إلى حوارات الشباب، إلا من رحم ربى، فإنها لا تخلو من تفاهات جعلتها منصبَّة على أخبار اللاعبين والمغنين والساقطين الذين اتخذوهم قدوات، واعتبروهم قادة رأى..
فلا حديث لقطاع كبير من الشباب هذه الأيام إلا عن السيارة «البنتلي» التي حصل عليها مطرب المهرجانات الصغير وتقدر بعشرة ملايين جنيه، أو عن السيف الذهبي الذى حصل عليه زميله الأجش مكافأة له من مؤسسة في دولة خليجية بعد خلافاته مع نقابته، أو عن شَعْر المغنية الذى حلقته أو فخامة وكيل أعمالها وجهاز الموظفين الذين يعملون معها، أو عن «البودي جاردات» الذين يحيطون بالمطربة الناشئة في حفلاتها الحاشدة إلخ.
ولا شك أن هذه التفاهة نتاج أنظمة سياسية مستبدة، تتخذ هذه التفاهة وسيلة لبقائها؛ فلا غرو أن تؤسس الأجهزة «السيادية» لزيادة جرعة الإلهاء، بل تربية أجيال بكاملها على مثل هذه الاهتمامات التافهة ضمن خطتها لتغييب الحقيقة وشغل العقول.
وقد عرَّت وسائل التواصل الحديثة زيف هذه الأنظمة، كما كشفت حالة الاضمحلال التي نعيشها حتى تقدم لاعب الكرة على عالم الذرة، والممثل على عالم الشريعة، ومخرج القذارة على أستاذ الهندسة، ونظرة واحدة إلى متابعي ومعجبي هؤلاء وهؤلاء تؤكد أن حالتنا مزرية ووضعنا يستحق الإشفاق.
أما سمات زمن التفاهة عمومًا فهي منطبقة جميعًا على زمننا وبلدنا؛ من حيث غياب العدل وقمع الحريات، وتكاثر الرويبضات ورؤوس الجهَّال، وسيادة الكذب، وتدنى الأخلاق، ونشدان التبعية والعمل في خدمة الأقوياء، واستفحال الطبقية، وانتشار الدجل والخرافة، والسحر والشعبذة، وفساد الأذواق، والدعاية الفجّة للقبح وردئ الأعمال. وهذا يستتبعه تغييب العلماء، وملاحقة الناجحين الشرفاء، والضعف الأكاديمي والمهني، واندثار ما يسمى «التفكير العلمي».
وللأسف، لما غاب النابهون أضحى التافهون يتباهون بتفاهتهم، ويعيبون على آبائهم جديتهم ووقارهم حتى رفضت مغنية الالتحاق بكلية الطب؛ حيث يعمل والداها طبيبين، مفضلة «الطرب»؛ لأنه يشبع ميولها ورغباتها! وتفاخرت أخرى بأن أباها «المهندس» يعيش في «خيرها!» ولولاها ما عُولج من مرضه العضال وما سافر إلى بلاد الدنيا..
وأذكر بهذه المناسبة حوار لي مع صديقي الناشر الذي افتخر بحصوله على حقوق طبع كتاب فريد في مادته لأستاذ بلاغة شهير قائلًا: لقد أعطيته حِملَ بعير. قلت: كم أعطيته؟ قال: ثلاثون ألف جنيه. قلت له بلغته المعتادة: حياك الله! وهل تعلم ما يأخذ «اللاعب المصري العالمي» في الأسبوع الواحد؟ فضحك ولم يعقب.
والكَيِّسُ من لا يقف أمام هذا العبث دون حركة أو فعل، ولو صغر، فمثلما يصبر هؤلاء على ما هم فيه ويكدُّون ويتعاونون لأجله، فليكن المستقيمون على هذه الشاكلة من الصبر على ما يقدمون من حقٍّ ورشد، وألا يشاركوا في هذه التفاهات التي سندفع جميعًا ثمنها..
إذ من أغرب ما أرى على وسائل التواصل؛ أن يبارك الرجل الوقور حسابات وصفحات أولئك التوافه، بالإعجاب والتعليق والمتابعة والصداقة، بل الثناء على أدائهم، وهو يعلم في قرارة نفسه أن الأداء وصاحبه مرفوضان إذا قيسا بما يدين به وما يحمله من مبادئ وأفكار، لكنه هوى النفس الذي يضل صاحبه عن سواء الصراط. نسأل الله النجاة.