عامر شماخ يكتب: طيْفٌ منْ أخلاقِ النبوّةِ يومَ فتحِ مكةَ
في يوم فتح مكة، الذي حلّت ذكراه (20 رمضان) وقع عدد من الحوادث المهمة التي تستحق الوقوف أمامها للدرس والتأمل، منها مشاهد عفو النبي ﷺ عن أهل هذه البلدة الذين أخرجوه منها من قبل وآذوه أشد الأذى وحاربوا دعوته وعذبوا أصحابه.
وقد دار جدل -ولا يزال- حول سبب هذا العفو الكبير من جانب النبي ﷺ؛ فمنهم من أوّله بـ«النخوة العربية»، ومنهم من أرجعه إلى (عبقرية محمد السياسية). أما المسلمون فعلى اتفاق أنه (عفو النبوة) وأثر من آثار خُلق من أرسله ربه رحمة للعالمين.
تحكى كتب السيرة أنه (لما فتح النبي ﷺ مكة دخل البيت، فصلى بين الساريتين، ثم وضع يديه على عضادتي الباب فقال: لا إله إلا الله وحده، ماذا تقولون؟ وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرًا، ونظن خيرًا: أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدَرَتَ، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف ﷺ: «لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»)، وأنه عفا ﷺ عن أبى سفيان رغم ما جرى منه خصوصًا يومي أُحد والأحزاب، فقال ﷺ: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن…».
كما عفا ﷺ عمن عقدوا العزم على اغتياله في هذا اليوم وقد أوحى الله إليه ما كانوا يخططون، وحتى النفر القليل الذين أمر ﷺ بقتلهم (ولو تعلقوا بأستار الكعبة)؛ لفُجرهم وعِظَمِ جرائمهم في حق المسلمين، فقد قُتل بعضهم بسيوف أصحابه، وعفا ﷺ عن آخرين لما عادوا إليه تائبين مثل عكرمة وابن أبى السرح.
أما من يدَّعون بأن تلك «نخوة عربية» معتادة بين أهل هذه البلاد الذين عُرفوا بصفات الشجاعة والوفاء ونجدة الملهوف وإكرام الضيف -أقول: لا خلاف حول هذه الصفات التي كانوا يفعلونها من باب الفخر والتباهي بالنسب والقبيلة، أما صفة العفو فقد كانوا أبعد الناس عنها، كانت هناك بالطبع استثناءات تأتى أيضًا في باب المروءة القبلية وحفظ وشائج الرحم، أما قانونهم في هذا الأمر فهو يعزز الانتقام والتشفّي، ولا يزالون يعتزون بما ورد في الْمُعَلّقَةِ الخامسة، معلقة عمرو بن كلثوم، التي لا تترك مجالًا للتسامح والصفح، ومما جاء فيها واشتُهر: (ونشرب إن وردنا الماء صفوًا… ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا).
وأما من أرجعوه إلى (عبقرية محمد السياسية)، ولا ننكر عبقريته وإلهامه في هذا المجال، فقد جهلوا معنى النبوة وصفات الرسول، وأنه بعيد كل البعد عن التقية وخائنة الأعين، وعن صفقات السياسة وأوحال السياسيين، وأنه يعفو عند المقدرة، ويكظم الغيظ، ويدفع بالتي هي أحسن، وأن عفوه غير مصطنع، إنما هو خلق من أخلاق الرسالة التي يتعالى صاحبها على نوازع النفس ورغبات الثأر والنقمة.
إن الذي يرجو هداية البشر لا يتكبر ولا يتعالى، ولا ينتصر لنفسه، ولا تأخذه العزة بالإثم، فإنه لم يؤمر بشيء من هذا.. ورد أن «سعد بن عبادة»، أحد النقباء، كان يحمل راية الأنصار يوم الفتح، ولما مرّ عليه «أبو سفيان» قال له: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلُّ الكعبة. فشكاه «أبو سفيان» إلى النبي ﷺ قائلًا: يا رسول الله! أُمرتَ بقتل قومك؟ فإنه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا، أنشدك الله في قومك، فأنت أبرّ الناس وأرحمهم وأوصلهم. فقال ﷺ: «كذب سعد، يا أبا سفيان! هذا يوم المرحمة، اليوم أعز الله فيه قريشًا».. وأخذ ﷺ الراية من سعد وسلمها لابنه «قيس».
هو إذًا منهاج النبوة ووصية السماء التي نزلت وحيًا على قلبه ﷺ؛ (خُذِ الْعفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85]، (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34].
وهو، أي العفو النبوي وتلك الأخلاق، أمرٌ قديم على يوم الفتح؛ ذهب «عبد الرحمن بن عوف» وبعض الصحابة إلى النبي ﷺ (وهم بمكة) فقالوا: يا رسول الله! إنا كنّا في عز ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلة، قال ﷺ: «إني أُمرتُ بالعفو فلا تقاتلوا»، وهذا العفو ما جعل أهل مكة كما قال الواصف: «خرجوا كأنما نُشروا من القبور فدخلوا في الإسلام»، وقد كانوا بالأمس ألد أعدائه. وإن هذا العفو لا يشين الداعية ولا يقدح في كرامته، بل يعطيه المهابة والعز: «.. وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا».