مقالات

عامر شماخ يكتب: عام على «طوفان الأقصى» [٥]

بددتْ معركةُ «طوفان الأقصى» وهمًا كبيرًا عاشته شعوبنا اسمه «العدو الذي لا يُهزم»، وكشفت الغطاءَ عن خداعٍ أكبر شارك فيه أبناءُ جلدتنا لتسويق العجز والقعود إزاء هذا «الجار الجبار»؛ ومن ثم موالاته والرضا بسيادته والائتمار بأمره.

عشنا عقودًا على وهم «الجيش الذي لا يُقهر»، كيف لا وقد انهزمت أمامه جيوشنا النظامية مجتمعة، في الحروب كلها، سلبهم أثناءها الأرض كما سلبهم الإرادة لاحقًا، وحتى الانتصار الوحيد الذي لا زلنا نحتفي به فإنه كان محدودًا، وكثرت الأقاويل حول حقيقته، وقد أعقبه اتفاقية العار التي اعترفت بالعدو وطبَّعت معه وألزمت الحكومات بمعاداة الشعوب لأجله.

وأوهمونا كذلك بأن هذا العدو يملك أقوى جهاز استخباراتي في العالم وأن هذا الجهاز لديه إمكانات بشرية ومادية تعجز إزاءها الأمم، وأنه استطاع في وقت مبكر تصوير رؤسائنا في غرف نومهم فكيف يكون حاله الآن بعد التطورات التكنولوجية المذهلة؟ ومن يستطيع منا -نحن العرب- التصدي لهذا الجهاز الذي يقف خلفه أسود عقائديون وهبوا أنفسهم لدولتهم التلمودية التي وعدهم الربُّ بها.

وأوهمونا أيضًا أن العالم كله رهن أمر الصهاينة لما يملكون من مال وإعلام ودعاية وفنون وعلاقات، وأنه لم يعد قصر حاكم واحد حول العالم لم يدخلوه ويخضعوا صاحبه لرغباتهم.

تبددت كل هذه الأوهام على أثر هجوم الأبطال المباغت والأسطوري يوم السبت (7 أكتوبر ٢٠٢٣)، وعلى أثر «رشقات» الصواريخ التي وصلت إلى أقصى بلداتنا المحتلة، وعجز العدو -بكل ما يملك- عن التصدي لها، فأفرغ حقده الموروث في قتل أطفال ونساء القطاع، ودكّ المستشفيات، وهدم البيوت على رءوس ساكنيها.

بددت جماعة محاصرة منذ عقود، بألف من أبنائها، وبأسلحة محلية صُنِّعت في ورش حدادة أهلية، وهمَ الجيش الذي لا يُقهر، وتحدته أن يدخل معقلها عن طريق البر وهو من يمتلك أكبر وأحدث مخزون أسلحة في العالم؛ لتنكشف حقيقة مرة: أن الجيوش التي قابلته من قبل كانت على غير المستوى الذي يليق بأمة محمد، وأن عقيدتها القتالية مزيفة وهو ما لا يفت في عضد العدو الذي لا يعالجه إلا جندي العقيدة الذي لا يعرف المستحيل.

تبدد وهمُ «الجيش الذي لا يُقهر» كما تبددت باقي الأوهام أمام ضربات الأبطال الموجعة، وأمام ثباتهم وشجاعتهم واستهزائهم بالعدو الذي يعتبرونه «نمرًا من ورق». ذلك أنهم استعانوا بالله، ولم يعجزوا، وصبروا وصابروا، وأعدوا ما استطاعوا من قوة، وانطلقوا من حيث أمرهم دينهم مقتدين بنبيهم ﷺ، مهتدين بقائدهم القعيد الذي قضى شهيدًا فلم يترك عذرًا لصحيح، ومن فعل ذلك كان على الله مؤازرته ونصره ودحر عدوه.. وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مولى الذين آمنوا والذين كفروا لا مولى لهم.

من كان يصدِّق أن الكيان الغاصب بكامله يُفرض عليه الحظر الجبري ويدخل ساكنوه الملاجئ بأمر أبطال القطاع، فهم من يحددون ساعة دخول الملاجئ وساعة الخروج منها، وهذا ما لم يحدث في حرب في التاريخ على حد علمنا: أن يُفرض حظر في بلد بكامله لا يستثنى بلدة واحدة، ومن كان يصدق أن «قبّتهم الصاروخية» التي صدعونا بدقتها وقدرتها وحصانتها تتعطل معظم الوقت ويفلت منها هذا الكم من الصواريخ التي رأيناهم يفرون منها إلى الملاجئ فرار الكلب المذعور إلى وجاره؟

وكما بددت المعركة الأوهام المراكمة حول «معجزات العدو»، بددت أيضًا أوهامًا صنعها الواقع العربي والإسلامي المتردي جراء سلوك ساسته وحكامه؛ من ذلك أن أمتنا لا زالت بعافيتها، وأن الإسلام متجذر فيها تجذر الشجرة الطيبة، وأنها لا تنتهج غير نهج الإسلام؛ فمنذ نشوب المعركة وشعوبنا تشارك المجاهدين شعورهم وتتلمس أخبارهم، وما من بلد إلا وترى فيه الحماسة ومظاهر الغيرة على مقدسات المسلمين، والتجاوب مع ما يجري في عموم فلسطين.. وكانوا أوهمونا أن أهل كل بلد مشغولون بما هم فيه، والواقع أن أمتنا أمة واحدة، كالجسد: أعضاء متعددة ومشاعر واحدة.

إنها إرادة الله التي تأتي بالحق وتزهق الباطل، وهي تعمل لصالح أرباب العقائد السليمة والنيات القويمة، فتصنع لهم الآيات والكرامات، وتنفخ في روحهم الإرادة الصلبة والعزيمة القوية، وتنزع منهم الوهن والخدر والميوعة والحمق، وتمنحهم الشجاعة والإقدام، والعطاء والإيثار، والمسارعة إلى الخيرات.

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى