عامر شماخ يكتب: «فيتنام مصر».. ذكرى انقلاب «السَّلَّال» [2]
بعد أربع سنوات من وقوع الانقلاب ونشوب الحرب الأهلية التي تحطمت فيها معنويات العسكر، اليمنيين والمصريين على السواء، بدأت جبهتهم في التصدّع، فانفلت زمام «السَّلَّال» ومجموعته؛ حيث توسّع في اعتقال ومطاردة كل من يعارض سياساته من رفقاء الأمس، وقام بتلفيق التهم بالعمالة للبارزين منهم، بل قام بإعدام عدد منهم وسحب جثثهم في الشوارع، وتشرّد منهم عدد كبير في الدول العربية التي لم يسلموا فيها من الأذى؛ فقد اعتقل «عبد الناصر» ستين منهم وجرى التنكيل بهم عقابًا على معارضتهم لـ«السَّلَّال».
وبانسحاب الجيش المصري مهزومًا من اليمن انكشف ظهر «السَّلَّال»، وزادت الانقسامات في صفّ الانقلابيين، ثم تدهورت العلاقة بينه وبين «عبد الناصر» على خلفية التعامل مع لجنة السلام العربية التي شكّلها مؤتمر القمة العربية في الخرطوم لحل الأزمة اليمنية ورفضها «السَّلَّال».
بقي «السلال» في الحكم حتى الخامس من نوفمبر عام 1967 عندما أُطيح به فيما عُرف بانقلاب «قادة ضباط الصاعقة والمظلات» الذين استغلوا زيارته الرسمية للعراق، بالترتيب مع عسكر مصر، في السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، وتم تشكيل مجلس جمهوري برئاسة القاضي «عبد الرحمن الإرياني»، وتولى «محسن العيني» رئاسة الحكومة، توجه «السلال» بعدها إلى القاهرة ليبقى فيها حتى سبتمبر من عام 1981 حيث عاد إلى اليمن بإذن رئيسها «علي عبد الله صالح»؛ لتوافيه المنية في مدينة صنعاء في الخامس من مارس عام 1994.
يؤكد التاريخ أن حرب اليمن التي تدخّل فيها عسكر مصر يمكن أن يُطلق عليها «فيتنام مصر»؛ باعتبارها «مغامرة صبيانية غير محسوبة» فقدت مصر بسببها الآلاف من أبنائها والكثير من عتادها الحربي، وذاق جيشها مرارة الهزيمة على يد أبناء اليمن المتمرّسين في حروب الجبال، لقد دفع «عبد الناصر» ورفقاؤه المهووسون ببريق الشهرة بثلثي الجيش الوطني إلى المعارك في اليمن، ومعهم أكفأ الوحدات وأحدث الأسلحة، تاركين الحدود والجبهات المصرية مكشوفة أمام الصهاينة الذين دمّروا ما تبقى من الجيش وطائراته في ست ساعات.
أرسل «عبد الناصر» (70 ألف) جندي بالمناوبة إلى ساحة المعركة في حرب خاسرة، لم يخططوا لها، ولا يعرفون عن أرضها شيئًا، فضلًا عن نجاح السعودية في استنزاف قدرات القوات المصرية بجرّها إلى فخاخ القبائل المتعاونة معها. لقد انسحب «عبد الناصر» وقواته من هذا المستنقع انسحابًا مخزيًا في أغسطس عام 1967، بعد مقتل (15 ألف) جندي مصري غير أضعافهم من الجرحى والمشوّهين، بعدما ضاعت هيبة مصر على المستويين الإقليمي والدولي، غير ما خلّفته الحرب من فساد واسع في الجيش، وشلل اقتصادي وأزمات داخلية، وعجز في الميزانية بلغ (365 مليون) جنيه، والأدهى والأمرُّ وقوع نكبة يونيو 1967.
يبدو من أحداث هذا الانقلاب أن العسكر سماتهم واحدة؛ فيهم الغدر والخسّة والخديعة، وفيهم الغلظة والقسوة، يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالح الوطن ولو أدى ذلك إلى تمزيقه، ويسعون دائمًا إلى الظهور والشهرة وادّعاء البطولة وما يستتبعه ذلك من تزييف الوعي وتضليل الجماهير..
غدر «السَّلَّال» بالإمام «البدر» الذي أخرجه من السجن وولّاه قيادة حراسته، فانقلب عليه وقصف قصره وأهل بيته، وغدر برفاقه فأعدم بعضهم وسجن وطارد آخرين؛ ليشرب من الكأس ذاته عندما انقلب عليه عسكرٌ آخرون عام 1967.
وإذا كان العسكر يدغدغون مشاعر الجماهير بحديثهم عن الوطن والمواطنة؛ فإن أفعالهم تنافي بالمرة تلك الأحاديث الكاذبة، لقد أدخل «السَّلَّال» ومجموعته البلاد في حرب مهلكة، قُتل فيها (100 ألف) مواطن يمني، وانتُهكت فيها الأعراض، وخُرّبت القرى والمدن، واستعانوا بالأجنبي الذي لم يتردد في قصف بيوت الآمنين بقسوة..
إنهم لا يراعون حُرمة ولا يعترفون بقدسية ما دام الأمر متعلقًا بتحقيق رغباتهم المجنونة في الوصول إلى السلطة، كما لا تعنيهم رغبات الشعوب، إنهم لا يختلفون شيئًا ولو يسيرًا عن أولئك الأشاوس الذين ضحوا بجيش بلدهم لإرضاء ذواتهم المتضخمة، فتمرغوا في هذا الوحل، ثم أذلّتهم إسرائيل في يونيو عام 1967 بعدما استدرجتهم إلى حرب اليمن التي أنهكتهم تمامًا قبل أن يفكروا في الردِّ على هجماتها المباغتة والمدروسة على مطاراتهم الخربة.