عامر شماخ يكتب: «مشاعرُ رجلٍ بلغَ السِّتين»
عندما يبلغُ الرجلُ الستين من عمره يكون قد أدرك معنى الحياة، وأنها لا تستحق كل هذا العناء، ويصير حكيمًا ذا تجربة تغنيه عن استفتاء الآخرين، فما مرّ به من حوادث وما جرى عليه من أقدار جديران بأن يجعلاه مصدرًا للفتيا، أهلاً للاستشارة وفي جُعبته حصاد خبرات أطوار الحياة مجتمعة بدءًا من الطفولة مرورًا بالشباب والكهولة حتى وصوله إلى محطته الأخير؛ مرحلة الشيخوخة.
والشيخوخة طور حتمي في حياة الإنسان؛ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54]، (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) [يسن: 68]، «قالت الأعراب: يا رسول الله! ألا نتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا ووضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا، فقالوا: يا رسول الله! وما هو؟ قال: الهرم».
في مرحلة الطفولة تكون اللذة في اللهو واللعب، والمرح والانطلاق، وفي الشبيبة تكون القوة والفتوة والمفاخرة بالذات واستعراض الزينة وصولاً إلى مرحلة التعقّل والنضج وتكثير المال وجني ما استطاع من حطام الدنيا؛ مصداقًا لقول الله تعالى؛ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ…) [الحديد: 20]، ثم تُختتم حياة الإنسان بمرحلة الشيخوخة، وقد شبّه الله تعالى أطوار حياة الإنسان مجتمعة بأطوار حياة النبات؛ جمال وقوة وسيادة وعظمة ثم انتكاس ففناء؛ ليتولى جيل جديد دوره في هذه الدنيا التي ستفنى بالمرّة في وقت هو في علم الله تعالى؛ (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].
عندما يبلغ الرجل الستين يدرك معنى الآية السابقة، وأن الدنيا بأجمعها عرضٌ زائل وعارية مستردة، وأنه كما قال أحدهم (يعيشون حق انتفاع)، أي لا يملكون من أصولها شيئًا وإن بدوا أمام الناظرين ملاكًا. في البداية عندما يشعر الستيني بأن قوّته قد ولّت إذ وهن العظم وابيض الشعر وتتالت الأمراض –يتملكه شعور بالضيق والقلق إذ لم يعتد هذا العجز، لكنه سرعان ما يعود إلى قراءة الحقيقة مرة واثنتين وثلاثًا، وأنه لا حيلة في الرجوع إلى الخلف أو استرداد أيٍّ من تلك القوى؛ فمنهم من يهلع ويتملّكه الخوف وربما عانى وهمَ المرض فيتضاعف عليه الهلع، ومنهم مؤمن بالله عالم بتلك الحقيقة فيرضى بقضاء الله، وإن بالغ في الحزن ردد شعر أبي العتاهية: (بكيتُ على الشباب بدمع عيني… فلم يغن البكاءُ ولا النحيبُ؛ فيا ليت الشبابَ يعود يومًا… فأخبره بما صنع المشيبُ).
كثيرًا ما يبحث أبناء هذا العمر عن زملائهم القدامى الذين توفاهم الله، ويتواصلون مع من بقوا منهم على قيد الحياة، كأنهم ينتظرون دورهم، وودوا لو سألوا المتوفين عن تجربتهم في الموت لكن لا سبيل إلى ذلك. وكثيرون من الستينيين يلجأون إلى العزلة، ويتوهمون العجز، ويبحثون عن نمط مختلف للحياة يتكيف مع هذا العجز، ويناسب طاقته ويمنحه الاستمرار في المشاركة في الحياة. هو إذًا الشعور بقلة الحيلة في تحدي عوامل الزمن، تلك العوامل القاهرة التي لا يستطيع أن يوقفها أحد.
ومع اضطراب النوم ووهن الصحة وتعدد الآلام ينتهي التعلّق بالآمال، وينحسر الطموح عند أدنى درجاته، ويزيد في ذلك تعاطف الناس معه لكبر سنّه، من يعرفونه ومن لا يعرفونه، وإشفاقهم عليه، وإبداء أشكال من التقدير تُقال عادة للطاعنين؛ ويعمّق لديه هذه المشاعر أيضًا تراجع أوراده وعباداته، والشعور بالملل والإرهاق عند بذل أقل مجهود، وكلما زاد في السنّ فيما يُعرف بـ«أرذل العمر» انحسر طموحه أكثر وأكثر فربما لم يعد له طموح بالمرّة، وهو سنٌّ كان يتعوّذ منه النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ «وأعوذ بك أن أُردّ إلى أرذل العمر».
في أحلام اليقظة تتوارد على أذهان الستينيين أسئلة كثيرة، وتحدث مراجعات داخلية غير مرئية للآخرين فيما يشبه جلسات العصف الذهني، ويُطرح سؤال: ماذا لو استقبلت من عمري ما استدبرت؟ وكلٌّ يعمل على شاكلته؛ فأما الأوابون الذين يستعدون للقاء الله بالإنابة والرجوع وترقب الموت فيندمون على ما بدر منهم من سيئات تغضب الله، وعلى ما فرّطوا في الطاعات، وعلى أوقات أهدروها كان يمكن أن تستفيد بها الأمة، ويودون لو بدأوا الحياة من جديد وفي أذهانهم هذا الموقف الذي يقفونه الآن؛ وإذ من المحال أن يتم ذلك فإنهم حريصون على ألا يقعوا فيما وقعوا فيه من قبل، وقد توعّد الله أرباب المعاصي خصوصًا في هذه السن المتأخرة؛ «إذا بلغ الرجل من أمتي ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر»، أعذر إليه: أي قطع عذره في ارتكاب المعاصي.