عامر شماخ يكتب: يا مؤمنُ عدْ.. ربُّك في انتظارِك
أحد أهم الأسباب التي تجعل المخطئين يتمادون في أخطائهم، أنهم يقنطون من رحمة الله وعفوه، ويعتقدون خطأً أن ليس لهم توبة، وأنهم مهما صنعوا من معروف فلن يقبل الله منهم شيئًا، وهذا مخالف لحقيقة الإسلام، منافٍ لطبيعة البشر التي رُكّب فيها الشر كما رُكّب الخير.
وللأسف فإن الشيطان ينتهز تلك اللحظات، فيعد ويمنِّى، ويأمر بالفحشاء، ويباعد بين الإنسان والتوبة، ويزرع في نفسه اليأس من قبول الله له، فيتمادى المذنب في ذنوبه، وينسى ربه الذي يغفر الذنب ويقبل التوب ويتجاوز عن العصاة المسرفين. يقول النبي ﷺ: «والذي نفسى بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم» [مسلم].
ليدركْ المسلم أن كل بنى آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون، وأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، فإذا ما وقع -لا قدر الله- في ذنب، عاد إلى ربه سريعًا، مستغفرًا من ذنبه، طالبًا العفو والصفح، راجيا من الله أن يبدل سيئاته حسنات، والله (عز وجل) لا يرد تائبًا، ولا يغلق أبواب الغفران في وجوه الطارقين..
بل إن الله تعالى ليفرح بعودة عبده التائب، وإنه لينقّي صفحته حتى تصير بيضاء لا شية فيها، يقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، ويقول النبي ﷺ: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدى بي، وأنا معه حيث يذكرني، لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرّب إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، ومن تقرّب إليَّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا، وإذا أقبل يمشى أقبلت إليه أهرول» [مسلم].
إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له -كما قال النبي ﷺ- ورب توبة أورثت ذلاً وانكسارًا، فصار صاحبها قريبًا من الله، حبيبًا إليه، ذاق طعم الطاعة إثر المعصية فثبت عليها وخالف هوى نفسه وشيطانه، فمثله كمثل رجل كلما أحدث حدثًا لجأ إلى ربه مستغيثًا به طالبًا مغفرته، وفى كل مرة يغفر الله ذنبه؛ لمخالفته الشيطان ولعلمه أن له ربًّا يغفر الذنب..
يقول النبي ﷺ: «إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: يا رب إني أذنبت ذنبًا فاغفره، فقال له ربه: علم عبدى أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبًا آخر فقال: يا رب، إني أذنبت ذنبًا آخر فاغفره لي، قال ربه: علم عبدى أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا آخر فقال: يا رب إني أذنبت ذنبًا فاغفره لي، قال ربه: علم عبدى أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فقال ربه: غفرت لعبدى فليعمل ما شاء» [البخاري ومسلم].
وليس من حق أحد، كائنًا من كان، أن يفتى بعدم قبول الله توبة أحد من الناس، مهما كان ذنبه ومهما كانت معاصيه؛ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 104]؛ لأن هذا حق الله وحده، فهو (سبحانه) يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فكيف يأتى بعد ذلك من يدّعى أن الله لا يقبل توب التائبين، مغلقًا بذلك بابًا من أبواب الجبر يلج منه العباد إلى حظيرة الإيمان وإلى حمى الله العزيز الغفار؟!.
عن ابن مسعود رضى الله عنه: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأة في بستان، ففعلتُ بها كل شيء، غير أنى لم أجامعها، قبّلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئتَ. فلم يقلْ الرسول ﷺ شيئًا، فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، فاتبعه رسول الله ببصره، ثم قال: «ردوه علىَّ»، فردوه فقرأ عليه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114]، فقال معاذ: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ فقال ﷺ: «بل للناس كافة» [مسلم].
يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 68-70]؛ لتظل العلاقة بين العبد وربه قائمة على الثقة والإخلاص، ودعم إرادة الإنسان وعزيمته، فيصير صلبًا في مواجهة نفسه والشيطان.