علي بركات يكتب: الاقتصاد وثلاثية.. الحرية المدنية والسياسية والسيادة (5)
الارتباطات والمؤثرات الحاكمة لحقيقة الاقتصاد
يتصور البعض ان الاقتصاد فقط أرقام يليها أصفار، وان الحديث عنه عملية معقدة على المنوال الحسابي الذي تحكمه معادلات فحسب،
لكن واقع حقيقة الاقتصاد مرتبط بمؤثرات وتدبير سياسي مرهون بسيادة الأرض..
والنظام الحاكم الذي لا يستطيع التحكم بقراراته الاستراتيجية دون فسحة مناسبة من الحرية التي تُمَكّن من صناعة القرار دون الحاجة لفرضه أو املائه من خارج المنظومة (الوطنية) التي ينتمي إليها،
فَلَمْ ولن تنشأ سيادة للقرار والنظام الحاكم معًا.. دون سيادة الرعية وحرية اختيارها لحاكمها ومساءلته عندما يجور او حين يحيد عن الجادة..
وهذا معيار لا يحتمل الجدل.. لأنه لا معنى لقانون أو دستور في غياب سيادة الرعية، أما العامل الإقليمي يمكن تجاوزه والقفز عليه برغم (العولمة المفروضة) إذا كانت عوامل إنجاح الاقتصاد الذاتية هي الغالبة في كنهه وادارته وفي مقدمتها الحريات الثلاثة المُشار إليها،
وإن شئت هي العنوان الأبرز لتفوق اقتصاد البلاد والمُخْرَج النهائي له رقميًا.. وعندها تبقى تأثير العولمة المفروضة تأثيراً هامشيًا.
المحطات التي ساهمت في تآكل بنية الاقتصاد العراقي
عند تناول العراق لفك معضلة انهياره الاقتصادي يجب الوقوف على محطات ساهمت في تآكل بنيته السياسية
مما أدت الى تدميره على عدة اصعده في مقدمتها الصعيد الاقتصادي،
لا يستعصي على الأفهام ان هناك ثوابت في تطوير بناء أي اقتصاد.. كما ان ثمة عوامل هدم تشل حركة الصعود لمؤشر الحركة الاقتصادية،
مع شديد الأسف تتشابه عوامل الهدم لدى منطقة (الشرق الأوسط) وفي القلب منها جُل الأقطار العربية..
وان كانت هناك بعض المفارقات الغير جوهرية، والدولة العراقية هي أحد الأمثلة الغنية بأسباب التدهور الاقتصادي
رغم محاولات الترقيع ووعود الأمريكان والحكومات المتعاقبة منذ الإطاحة بحكم حزب البعث 2003 والى الان.
حكومة تحت الوصاية الأمريكية
الحكومات المتعاقبة في العراق لم تأت بشروط شعبوية محضة واختيار نزيه..
بل تشكلت تحت الوصاية الأمريكية.. هذه الوصاية التي سنُعَرّج عليها عدة مرات لاحقًا أحد المكبلات التي تعوق حركة النشاط الاقتصادي صعوداً وتنمويًا، وسنأتي بأمثلة دامغة من واقع العراق تدلل على ذلك..
وبالطبع دون اغفال تأثير حرب العراق مع إيران 1980 الى 1988التي كلفت العراق 400 مليار دولار وانتهت بلا انتصار لكلا الطرفين..
وكانت أول أعراض مرض الاقتصاد العراقي.. تلتها بعد عامين حرب الخليج الأولى أو ما بات يُعرف بحرب تحرير الكويت
التي شنتها قوات التحالف المكون من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية..
وكلفت العراق مائة مليار دولار.. وأخرجته من الحياة السياسية الدولية والإقليمية مع حزمة جائرة من العقوبات
والحصار الاقتصادي من أغسطس 1990 حتى ابريل 2003 مما تمخض عنه سلسلة من الانهيارات أهمها الانهيار الاقتصادي..
التي كان النفط فيها يباع مقابل الغذاء!، ثم الغزو الأميركي للعراق 2003 الذي قسم بحق ظهر العراق سياسيًا
وجعله مرتعًا للقوى الإقليمية وفي المقدمة منهم إيران وميلشياتها المتعددة على ارض العراق خاصةً في الجنوب العراقي.
معوقات الاقتصاد الريعي ومساوئه
يعتمد اقتصاد العراق على النفط الذي يشكل 95٪ من اجمالي الدخل القومي لخزينة الدولة مما يجعله اقتصاداً (ريعيًا)..
هذا في حد ذاته معوق يجعله رهنًا لسوق النفط والأزمات الإقليمية التي تنعكس على أسعار النفط التي تدخل الخزينة العامة..
مما يجعله من الاقتصاديات التابعة المُلحقة، ليس هذا وحسب.. بل بحكم الوصاية الأميركية على العراق تم وضع دولة العراق في معضلة أكثر تعقيداً..
بفضل الاتفاقيات التي تم إبرامها مع الجانب الأميركي المحتل عام 2003 التي ترغم الجانب العراقي على دخول العائدات النفطية الى البنك الفيدرالي الأميركي..
تحت مسمى (تنمية العراق) وليس مباشرةً الى خزينة الدولة العراقية، وهذا بعد اخر يفسر لنا تآكل السيادة.
الوصايا الأميركية على أموال النفط وموقف البنك المركزي وتدهور العملة المحلية
ثمة وجه آخر يقف الحؤول دون صعود الوضع الاقتصادي وازدهاره.. واقعة (العملة الأجنبية) تلك التي أحدثها الحاكم المدني الممثل للمحتل الأميركي (بول بريمر) عام 2003 والذي كان يسعى من خلالها للاستيلاء على أموال النفط العراقي والتصرف فيها..
ويصبح المسؤول عن تسديد متطلبات مؤسسات الدولة العراقية.. صحيح أن مطلب (بريمر) قُبِلَ بالرفض القاطع من كل الاطراف العراقية.. أو لنقول معظمها..
إلا انه تمخض عنه اتفاق (كحل بديل) جاء به البنك المركزي العراقي آنذاك.. وهو بيع الدولارات بالمزاد للقطاعات التجارية والصناعية بغية تسيير الحركة الاقتصادية في العراق..
وبديهياً أوجد هذا الوضع سوقاً موازية قامت بمساهمة كبيرة في خفض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي،
وبالتالي كان له مردود سيئ على المواطن العراقي.. أهمها ارتفاع الأسعار،
مما اغرى بعض الدول لتأسيس بنوك لها لتحقيق أرباح من مبيعات الدولار و(الاستفادة من فروق أسعار الصرف) مثل تركيا، لبنان، الأردن، وإيران..
وهذه الأخيرة تستحوذ على نصيب كبير من النفوذ والسيطرة على الاقتصاد، استفحل في فترة حكم (نور المالكي) وموافقة ضمنية من الطرف الأميركي.
جرائم غسيل الأموال وتهريب الدولار خارج البلاد
في الواقع هذه الحالة افرزت معها سلسلة من الأسباب التي ساهمت بقسوة في تدهور الوضع الاقتصادي..
غسيل الأموال وتهريبها خارج البلاد مما دفع الامريكان (صانع المشكلة الرئيسي) منع وصول بعض البنوك من الحصول على الدولار..
وقد أدى هذا بدوره لشُح المعروض من الدولار في السوق.. مما جعل ارتفاعه نتيجة منطقيه لهدر السيادة وتجميد حرية القرار الذي لا معنى معه لأرقام يصدرها الاعلام ورجال الدولة من هنا أو هناك!،
حتى ان السياسيين أنفسهم لم تسلم العراق الجريح من استغلالهم الوضع..
لقد فضحت مفوضية النزاهة العراقية توريط بعض الوزراء في حكومة (اياد علاوي) بتهمة ارتكاب جرائم فساد اداري
كان منهم (لؤي العرس) وزير النقل السابق و(حازم الشعلان) وزير الدفاع السابق اللذان هربا خارج العراق بالأموال المسروقة،
نهيك عن تهريب بعض البعثيين من المسؤولين السابقين الأموال المنهوبة خارج البلاد.
الفساد الإداري والجرائم السياسية
الجرائم السياسية معوق جدير بالإشارة.. لقد تفشت في العراق بشكل خطير وأضعفت الحياة المدنية..
وناتج عن ضعف الدولة والحروب المتتالية والوصاية الأميركية..
مع تمتع المسؤولين الحكوميين بحرية واسعة النطاق في التصرف وندرة من الرقابة والمساءلة..
وسعيهم الحصول على ريع بشكل غير قانوني في بلد غير متعافي على جميع المستويات، وهذا يجرنا إلى سؤال اخر..
هل هذه الزمرة من المسؤولين يستطيعوا السعي لبناء سياسات تنموية تنقل الاقتصاد من الشمولية الى اقتصاد السوق؟،
مع وجود الوصاية الأميركية التي هي العمود والعامل السياسي الأساسي الذي أوجد حالة الفساد الإداري تلك في مؤسسات الدولة العراقية بغية خلق نظام جديد يساهم في استقرار الشمولية..
فزاد معها اعتماد قطاعات ليست بالقليلة على الدخل الريعي..
وعليه تصبح المقولة الدارجة “إذا كان الشعب فاسد فما ذنب السلطة “منطقية.. وان السلطة مولودة من رحم الشعب،
ومن الجرائم التي يجب ان نسوق نموذج منها مثالاً لا حصرًا.. تلك الطبقة السياسية التي تحولت الى نخبة من رجال الاعمال
(هذا يصادم في حد ذاته نزاهة رجل السياسة، لقدرته على التشريع وسن القوانين)
تتلاعب في لجان المناقصات اذ يرسون المناقصات على أحد الأشخاص او الشركات مقابل مبلغ من المال..
كمنح عقد لشركة (هولبيرتون) دون التقييد بقواعد المناقصات التنافسية التي يجري تطبيقها في كل العالم.. الامر الذي جعل السياسي الفاسد يملئ جيوبه على حساب خزينة الدولة العراقية.
لا اقتصاد دون حريات
فبالرغم من كون العراق بلد نفطي بامتياز.. لدية احتياطي مؤكد نفط يقدر بحوالي 115 مليار برميل.. و214 مليار برميل احتياطي غير مؤكد،
ولديه عدد كبير من حقول النفط العملاقة..
غير الحقول المكتشفة ذات المكامن المتعدد والقريبة من سطح الأرض إلا أنه لا قيمه محققة على صعيد الاقتصاد،
لأنه يعيش تحت الوصاية منذ 2003 وإلى الان بحجة الحماية، وكل ما يتم تسويقه من اتفاقيات بين العراق والولايات المتحدة الأميركية..
كتحويل جزء من أموال النفط العراقي الى حوالات دولية مباشرة بدلاً من مزاد الدولار كحل يساهم في التنمية عارٍ تمام عن الصحة أو حبر على ورق،
لا اقتصاد دون الحريات المُشار اليها.. في الجزء التالي سنتناول بمشيئة الله الوضع الاقتصادي لكلٍ من الجزائر تونس ولبنان.