علي بركات يكتب: الاقتصاد وثلاثية.. الحرية المدنية والسياسية والسيادة (6)
منهجية المستعمر في تغذية الصراعات عن بُعد

م يكن المستعمر الفرنسي ليرحل عن مستعمراته دون اخذ الحيطة، التي تضمن شروط تحفظ له المكتسبات التي حققها منذ الاحتلال وحتى عشية رحيله الشكلي عن مستعمراته..
هذا التحرير المنقوص سبقته إجراءات مُبَيّته ناعمة.. ظهرت جلية فور خروج المحتل ووقت التشكيل السياسي للنُخَبْ التي خاضت غمار التحول التحرري من قبضة المحتل الفرنسي..
لم تعي تلك النُخَبْ في معظمها وهي ترعى شؤون الرعية خطورة التركيبة (السوسيولوجية) التي أفرزت صراعات متعلقة باللسان العربي والبربري..
ومن جهة أخرى فرض اللسان الفرنسي على المؤسسات الإدارية في البلاد..
هذه التركيبة التناقضية بثقافتها المختلفة (عدائيًا) أربكت بناء التأطير لحركة السياسة التي انعكست بالتالي بالسلب على اقتصاد البلاد.. هذا الصراع ليس أصيل في كنهه..
بقدر ما هو (تراث استعماري) تم إنشاؤه بمنهجيةٍ عالية.. سهلت للمستعمر العبث بمقدرات البلاد وتغذية الخصومات السياسية في حالات التأزم.
نهضة الاقتصاد أحد أهم نواتج الارتباطات الواقعية للعمل السياسي
في الواقع يُنظَر الى الاقتصاد الجزائري على انه اقتصاد يحمل عوامل نجاحه في ذاته إذا ما تم إدارته وفق سياسات (وطنية سيادية)..
الجزائر من الجغرافيات الواسعة الغنية التي تمتلك من المقدرات ما يُمَكْنها من الاكتفاء..
لكنه يظل التراث (الكولونيالي) الفرنسي حجر عثرة للمضي قدمًا نحو الأفضل..
وبدون مواربة، توجد فئة محدده غير مؤهلة للعمل السياسي تقود البلاد من وراء الستار..
لذا تحترف هذه الفئة التزوير وتخدم مقاصدها عبر وكلاءها..
مرة في صورة رجال أعمال وحيناً اخر تلميع رجال مغمورين سياسًا.. هذه الفئة القابعة على عصب أجهزة الدولة مفتاح المحتل، ومزلاج الحريات، والسهم المسموم في قلب (السيادة الوطنية) إذا جاز لنا التوصيف..
وبالحديث عن الجزائر فالمقصود بهذه الفئة..
جنرالات المجلس العسكري الذين يسيطرون على حركة السياسة بما تمليه عليهم الإدارات المتعاقبة على قصر (الإليزيه) في باريس، والكرملن في موسكو، وبالطبع اميركا حاضرة في غالب الاحوال..
ثمة شواهد عدة تؤكد هذا التشوّف من خلال استحضار الحدث المعروف لدى حتى العامة، بين قائد الاركان العسكري (محمد العماري) الذي اشتهر بعنفه المفرط مما دفع الرئيس الراحل (بوضياف) لإقالته،
فكانت النتيجة تصفية واغتيال (بوضياف) بعد أسابيع من قرار إقالة (عماري) 1992 في وضح النهار أمام العالم..
يأتي في القائمة العديد من القادة العسكريين النافذين الذين يتحكمون بالقرار المصيري للبلاد على جميع الأصعدة..
مدير المخابرات الأسبق اللواء عثمان طرطاق، اليامين زروال، الذي شغل منصبين هامين..
وزيرًا للدفاع ورئيسًا للجزائر، الفريق محمد الأمين مدين الشهير ب (محمد توفيق) الذي لا تعرف حقيقته غالبية الجزائريين..
نظرًا لاختفائه، بما فيهم النخب السياسية، هذا الأخير كان يعمل مديرًا للمخابرات ووصِفت فترة توليه لجهاز المخابرات الأكثر عنفًا ودموية إلى جانب وزير الدفاع السابق خالد نزار..
وبوجهٍ خاص فترة التسعينيات حتى أوائل الالفية الثانية.. او ما بات يُعرف إعلاميًا ب (العشرية السوداء)، هؤلاء، وغيرهم ممن رحلوا أمثال العربي بلخير، قايد صالح.. هم المسؤولون حقًا عن تصنيع وتسيير الحدث السياسي في الجزائر بمخرجاته وأدواته..
مع الإشارة أن نهضة الاقتصاد أحد أهم نواتج الارتباطات الواقعية للعمل السياسي، لأن الاقتصاد دورة من دورات العمل السياسي وليس العكس..
العمل السياسي بمثابة الرأس للجسد، إذا فسد تعطلت الإشارات العصبية لكامل الجسد.
نُظم الاستبداد تستند في شرعيتها إلى قرارات خارجية وليست شرعية الداخل
معلوم بالضرورة أن الحكم العسكري يستند في شرعيته (الحاكمية) إلى قرارات خارجيه وليست شرعية الداخل الوطني (سوى إعلاميًا)..
لذا لا غرو أن، لا، ينتمي أفراده عمليًا إلى الشعوب التي يتحكم بها، والقائمة سالفة الذكر من العسكريين الذين تمكنوا من البلاد دفع بهم الطغيان للتركيز على استيفاء مصالح اسيادهم في الغرب..
على حساب المصالح (الوطنية) لرعاياهم، بغية مكتسب وحيد، الجلوس على العرش.. استغلوا بكل ما أوتوا من قوة، الهامش الممَكن لهم لنهب مقدرات البلاد..
حتى أضحى الفساد العنوان الأبرز لا يستثنى مَنْ تقلد منهم مناصب وزارية ممن تلقوا تعليم مدني أمثال وزير الطاقة السابق (شكيب خليل)،
أو (سعيد بوتفليقة) مستشار الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، أو (محمد مزيان) الذي كان يعمل رئيسًا لشركة النفط الوطنية الجزائرية (سوناطراك)..
في عهد وزير الطاقة سالف الذكر شكيب خليل.. جدير بالإشارة أن الغالب الأعم من الجنرالات سالفين الذكر قد تكونت من خلال اتصالها بالغرب، والشرق، تلقوا تعليمهم وتدريباتهم في روسيا الاتحاد السوفيتي سابقَا..
على سبيل المثال تدرب عثمان طرطاق في موسكو داخل مدرسة الاستخبارات الروسية (KGB)، محمد مدين وشهرته محمد توفيق تلقى تكوينًا عسكريًا في مجال الاستخبارات بمدرسة المخابرات الروسية،
وأخيرًا وليس آخرًا أحمد قايد صالح رئيس اركان الجيش الراحل أجرى دورة تكوينية في الاتحاد السوفيتي روسيا حاليًا لمدة عامين، شكيب خليل وزير الطاقة حصل على الدكتوراة في هندسة النفط من جامعة تكساس.
ثم عمل مع شركة شل في ولاية أوكلاهوما ثم في مكتب هندسي في دلاس وتكساس.. أي تم تحضيره خارج الوطن الام، وشكيب بالمناسبة يحمل الجنسية الامريكية.
اتباع سياسة اللاسياسة في إدارة البلاد
في الواقع إتباع سياسة اللاسياسة إذا جاز لنا التعبير في إدارة الجزائر.. أفرز سلسلة من الفساد صنعتها وتسترت عليها في أحيانًا كثيرة النُخَبْ العسكرية الحاكمة، وسنعرّج عليها لاحقًا بأمثلة..
المريب في الامر أن تلك النُخَبْ أحيانًا تدير الصراع فيما بينها.. ليس من أجل (الوطن)، إنما من أجل المصالح الشخصية..
وإن كانت تدخل ساحات القضاء تحت مسميات التورط في فضائح فساد، أو التآمر على سلطات الدولة وأمنها..
وما إلى ذلك من المسميات التي لا يملكها سوى المتنفذين في الدولة العسكرية.. التي تعد مصر والجزائر البلدان الرائدان فيهما عربيًا.
في الواقع تعتمد الجزائر في دخلها القومي على 60٪ من تصدير الغاز والنفط،
لذا تعد الجزائر من الاقتصاديات الريعية.. واقتصاد الريع أحد العوامل التي تسهل للمتنفذين التورط في الفساد،
ثمة قرار بوقف الاستيراد لأكثر من ألف سلعة عطش السوق الداخلي دون مراعاة آليات موضوعية لخلق بدائل محلية..
الذي أدى بدوره لخنق أصحاب الاعمال الصغيرة وهدر قيمة الرساميل..
مما دفع بالكثير لسلك طرق ملتوية مرهقة ماديًا للحصول على هذه المنتجات من خارج البلاد في ظل ندرة العملات الأجنبية، في الحين ذاته نرى رجال الاعمال العمالقة مثل علي حداد، مليك ربراب..
ليس لديهم أدنى صعوبة في تسيير أعمالهم.. وحصولهم على العملات الصعبة بل وتهريبها خارج البلاد،
بما فيهم رجال السياسة من المدنيين والعسكريين وعائلاتهم اللذين يسيطرون على الحديد والسكر والقهوة..
كما سنبين الان.
فساد المسؤولين وعائلاتهم أحمد قايد صالح وابنية عادل وبومدين
ثمة نموذج للفساد الإداري والسياسي في الوقت عينه يتجسد في عائلة الفريق الراحل احمد قايد صالح.. وبالتحديد ابنيه (بومدين، عادل)..
لقد تمكن أبناء الفريق الراحل بإخفاق وتسهيل من والي عنابة السابق “الغازي” للحصول على عدة شركات ب (الدينار الرمزي)..
مثل شركة (AGB)المتخصصة في معالجة القمح الصلب واللين التي تم استحواذ بومدين عليها في عام 2013،
بالرغم من ان الشركة موجودة فقط اداريًا..
ولم تبدأ العمل إلا في عام 2016، تلقى بومدين حصة الشركة من (القمح المدعوم) من اليوم الأول للشراء من الديوان الوطني للحبوب..
بحسب ما كشفته “صحيفة الوطن الناطقة بالفرنسية” الثامن من أغسطس 2020، وهنا يتساءل البعض أين كانت تذهب حصة القمح المدعوم طيلة الثلاث سنوات قبل أن تبدأ الشركة العمل الفعلي؟!،
وبذات الكيفية ثمة شركة أخرى للمياه المعدنية اسمها (SARL RIGHIA) على مساحة عشرة هكتارات،
بحسب المصدر ذاته تم الحصول على عدة شركات في ولايات أخرى معظمها في الجزائر العاصمة..
غير الشقق والأراضي والفلل التي تم شراؤها في مزاد علني تم تغييب المشاركين الجادين عنه لتكون الكلمة الفصل ل(بومدين وعادل) أولاد الفريق قايد صالح.
في الواقع لم ينته الامر عند هذا الحد.. بل تم تطويع القانون للشركات التي استحوذا عليها بومدين وعادل وذلك باللجوء الى موثق لإتمام هذه التغيرات..
يمكن اسقاط هذا النموذج على معظم حالات الفساد، إن لم يكن جميعها، التي تورطت فيها النافذين في الدولة الجزائرية.. أو التابعين لهم من عائلاتهم أو (رجال أعمال الواجهة)..
في ظل قوانين نفعية تعطي مساحة رحبة للكبار.. وتضيق الخناق على القطاع العريض من صغار التجار، في وسط مستفز من البيروقراطية،
التي يعيشها أبناء الجزائر عند التعامل مع كل مؤسسات الدولة، هي وصايا تهدر حق الفرد المدني وتسحق انتمائه وتعكر صفوه..
الجزائر.. التحرير الناقص
وفي هذا الصدد ينتقد (غازي حَيدوسي) وزير الاقتصاد الجزائري السابق في كتابة، الجزائر.. التحرير الناقص، قائلاً:
(من المؤسف أن تضع الدولة المؤسسات الاقتصادية على مسافة واحدة في استفادتها من الدعم مع، محدودي الدخل، والفئات الضعيفة)،
كما يتفق، حَيدوسي، مع كاتب الدولة للاستشراف والاحصائيات السابق “بشير مصطفى” بقوله ان الحكومة مجبرة على مراجعة سياسة الدعم المتبعة منذ سبعينيات القرن الماضي..
لان طبيعة المجتمع الجزائري وتركيبته قد تغيرت، بينما سياسة الدعم ظلت ثابته..
حيث ان المداخيل كانت متقاربه، كما ان عدد الجزائريين حينها في السبعينيات لم يتجاوز 15 مليون نسمه، أما الان يتجاوز الأربعين مليون، مع بروز طبقة كبيرة من الأثرياء.
سبب تدهور العلوم كما يراها عالم الاقتصاد الكلاسيكي آدم سميث
هذا الفساد السياسي الذي تولد عنه اختلال في الميزان العام جعل الانفاق على المجالات الهامة مثل الصحة في مستويات متدنية..
وجِدَ أن الانفاق في مجال الصحة وفق تقدير لمعدل إنفاق الفرد على الصحة.. جاءت الجزائر في المرتبة السابعة لعام 2024 في موازنة الصحة 848 مليار دينار جزائري..
ما يعادل 6,25 مليار دولار، كما يعاني النظام الصحي من نقص الادوية والمعدات والموظفين،
ولتفسير هذا فإن عالم الاقتصاد الاسكوتلندي الكلاسيكي، آدم سميث، الذي تضرب إليه أكبادُ الإبل لفك عقد الاقتصاد، يرى أن تدهور العلوم وما شابه يعود الى تراجع التجارة (الاقتصاد)..
كما حدث عند تغيير طريق التجارة سابقًا.. وكما حدث في الجزائر عام 1984 حين أصاب انخفاض أسعار المحروقات مقتلاً من عائدات الدولة،
فعمدت الحكومة إلى إجراءات نحو ضغط الجماهير وضغط النفقات للإدارات والاعانات للصحة والتربية..
مما انعكس بالتالي على الخدمات العامة، ولكن هذه التدابير (لم تمس أصحاب الامتيازات).!
صراع القادة فيما بينهم مخاتلة وليس محاربة للفساد
بالمجيئ لشكيب خليل، وزير الطاقة السابق المتورط في قضايا فساد، يتضح المثال وينجلي..
الوزير السابق تم إدراجه ضمن الفساد المتعلق بالعقود التي منحتها الشركة الوطنية للنفط (سوناطراك) لصالح شركات اجنبية..
وكذلك تورط سعيد بوتفليقة، كما تورط شكيب خليل بالاستفادة من تحويلات مالية كبيرة الى حسابات بنكية (كثيرة) خارج البلاد..
كما ورد اسم شكيب خليل وعائلته بحسب مجلة (جون أفريك) الفرنسية في فضائح دفعت سعيد بوتفليقة الى تهريب شكيب خليل الى الولايات المتحدة الامريكية، وبحسب (SKY NEWS) عربي 28يناير 2021،
ووفق ما ذكر مصدر قضائي لوكالة فرانس برس أصدرت محكمة جزائرية في يناير 2021 تأكيد الاحكام الصادرة في ديسمبر 2019 بالسجن على رئيسي الوزراء السابقين أحمد اويحيى 15 عام، وعبد المالك سلال 12عام.. في تورطهما في قضايا فساد في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز أبوتفليقة،
بما فيهم التمويل الخفي لحملة بوتفليقة 2019 أطول الرؤساء عمرًا في السلطة من بين الخمسة عشر رؤساء منذ الاستقلال،
هناك مثال أكثر وضوحًا، عندما تدهورت العلاقة بين الفريق صالح قايد ومدير المخابرات السابق محمد الأمين مدين، وشهرته محمد توفيق..
تآمر الفريق قايد صالح لعزل محمد توفيق ثم إدراجه مع شخصيات نافذه في الدولة ومقربه من الرئيس السابق بوتفليقة في قضايا فساد..
ثم سجنه، برغم ان الفساد طال الفريق قايد صالح وعائلته كما ذكرنا آنفًا..
ليتيقن الجمع أن حتى المحاكمات التي تنْصب للمتورطين من الساسة بأطيافهم العسكرية والمدنية،
ما هي سوى مخاتلة أو صراع فيما بينهم على (الذبيحة)، هذا قليلُ من كثير، الكل يتربص للكل.. والكل على الشعب.
غازي حَيدوسي وزير الاقتصاد الجزائري الأسبق ونقد المؤسسات السياسية والاقتصادية
لك أن تتصور حركة اقتصاد في ظل آفاق سياسية مغلقه، وتربص أجهزه ضد بعضها البعض..
في ظل هذا الصراع يخسر غالبًا أرباب الأعمال الصغيرة الخاص المحرومون من أجهزة تكفل له تسييرًا للاقتصاد، وحماية من التنافس الخارجي والداخلي،
المتمثل في رجال الاعمال الكبار المقربين لرجال السياسة في الدولة.. بفضل لعبة الامتيازات..
ليس هذا فحسب بل تثقل الضريبة كاهل البرجوازية الصغيرة،
ضحية الضباط القساة في الجزائر بحسب تعبير غازي حَيدوسي، الجزائر التي تتصدر المرتبة رقم 3 بمعدل 35٪ ضمن أعلى عشرة دول عربية الأعلى فرضًا لضريبة الدخل عام 2024 وفقًا لمنصة (TRADING ECONOMICS)..
جدير بالإشارة ان إدارة الأموال العامة مازالت تخضع لقواعد تمليها الخزينة الفرنسية بحسب ما كشفه غازي حَيدوسي!
هذا المناخ السياسي الذي يفتقر للأجنحة الثلاثة، الحرية المدنية، الحرية السياسية والسيادة، يقف الحؤول دون نهضة الاقتصاد..
مما عَمْق حالة انتفاخ الهجرة من حيث الإستاتيكية الاقتصادية إلى الديناميكية الاقتصادية في فرنسا وغيرها.
يبقى الامر الجوهري ما خَلُص إليه وزير الاقتصاد الأسبق غازي حَيدوسي في كتابه “الجزائر التحرير الناقص”..
أن خطاب العداء للإمبريالية “مخاتلة” من قِبَل السادة المتنفذين في الدولة “تطفي الشرعية” على “غياب الديموقراطية” السياسية والاقتصادية معًا ويسمح بالاستبداد.
في الجزء الأخير سنتناول الحالة التونسية هذا البلد الصغير الذي يعيش بما يفوق إمكاناته.
أما فيما يخص لبنان فقد أفردنا جزئية خاصة بالوضع الاقتصادي في مقالتنا التالي: