مقالات

عمرو عبد العزيز يكتب: إسرائيل المتحكمة في أمريكا أم العكس؟

أظن هذا السؤال فيه مشكلة أنه منطلق من فكر مزيج من ما بعد الاستعمارية والواقعية السياسية، مع مركزية مفهوم المصالح – المادية بصورة رئيسية.

لا إسرائيل متحكمة ولا العكس، البلدان بينهما اتفاق ديني وحضاري كبير جدا، ومنذ اللحظات الأولى لميلاد المستعمرات الأمريكية حضرت التوراة وإسرائيل خاصة عند البيوريتان: كانت أمريكا هي (المدينة فوق التل [صهيون]) بالتعبير الشهير الذي استخدم في عصر ميلاد أمريكا، وفي عصر ريجان وعلى لسانه!

لا يعني هذا أن اليهود كانوا محبوبين من الأمريكيين، فحتى العشرينيات كان بوسع فورد أن يهاجم اليهود ويحشد ضدهم الأمريكيين في صحفه ويتهمهم بالمؤامرة العالمية والبروتوكولات، لكن صنع الفارق ارتفاع أعداد اليهود بصورة كبيرة جدا خلال نصف قرن فقط (الهجرات الضخمة من شرق أوروبا ونطاق الاستيطان الروسي إلى أمريكا)، مع حضور تعليم نخبهم الجيد الذي جاؤوا به من عصر ارتفاع الحضارة الأوروبية خاصة في ألمانيا، ثم سهولة توثيق العلاقة بين اليهود والسردية الدينية الأمريكية لنشأة بلدهم (إسرائيل الجديدة).

تحدثت مع بعض الأصدقاء الذين يعيشون في أمريكا وكندا وأوروبا (هولندا وفرنسا تحديدا)، ومررنا في النقاش بالرؤية واسعة الانتشار هناك التي ترى أن التواجد المتصاعد للمسلمين سيكرر التجربة اليهودية في أمريكا، وسيصبحون لوبي أو ما هو أكثر: السكان الجدد أو قسم ضخم جدا من السكان يغير سياسات هذه البلدان مع المسلمين. كان رأيي -في أمريكا تحديدا إذ تخصصي فيها أوضح- أن الذين يعتقدون بإمكان تكرار ذلك يفوتهم أن الهوية الأوروبية أصالة والأمريكية تبعا بُنيت على العداء للإسلام تحديدا، وإن كان الأمر في أمريكا اتسع منذ البداية فكان العداء عرقيا طائفيا ضد الملونين (والإيطاليون مثلا عندهم ملونون) والكاثوليك. هذا جعل تأسيس العداء للإسلام وبث الروح الأوروبية الهوياتية القائمة على محاربة الإسلام – حينما جاء وقت ذلك خاصة مع حادث البرجين – في أمريكا سهلا ميسورا حتى في الأوساط الليبرالية التعددية، بينما قصة اليهود مختلفة غربيا، وفي أمريكا تحديدا: إن تأسيس رؤية تكون فيها إسرائيل وأمريكا بمثابة كيان حضاري واحد في مواجهة العالم شيء سهل، وليس بالصعوبة البالغة، فالبروتستانتية (دين أمريكا الأول) كانت منذ البداية الأوروبية من أشد الطوائف المسيحية استرجاعا للتوراة وتقديسا لها وللرموز العبرانية، مع توسُّع في التأويل ولا مركزية لرجال الدين، وكل هذا يسمح بإعادة تفسير الموقف البروتستانتي والأمريكي لتصبح إسرائيل (الجديدة) وإسرائيل (القديمة المستعادة) كيانا واحدا، أو حضارة واحدة بشكل عام!

ختمت الكلام مع أحد الأصدقاء قائلا: الغرب لم يخُض مع اليهود معارك طوال التاريخ وحتى اليوم! لم تؤسس هوية أوروبا يوما على أنها (ما ليس اليهود) منذ بداية صعودها الهيليني البطلمي، بينما تأسست منذ بلاط الشهداء على أنها (ما ليس الإسلام)! كان الأوروبيون يؤدِّبون اليهود ويسحقونهم ويشتتونهم متى أرادوا بلا زلزلة ولا نكاية، منذ دخول جيوش بومبي لفلسطين والرومان أصحاب قدرة وإرهاب، وحينما قرروا القضاء على قصة (القدس ومملكة يهوذا) بصورة نهائية فعلوها ودمروا كل شيء!

أما المسلمون:

فلا! معارك وملاحم دائمة، الاستيلاء على الأندلس وعلو الصليب في الغرب الإسلامي تزامن مع ضياع بيزنطة وممتلكاتها في قلب أوروبا وعلو لا إله إلا الله في الشرق! وحتى اليوم هم في ملاحم وقتال وصراع لا ينتهي! فكيف يظن المسلمون أن بإمكانهم إعادة القصة اليهودية في أمريكا وأوروبا؟!

نرجع إلى الفكرة الرئيسية:

غالب النقاش حول (من يسيطر على من) يدور منطلقا من فكرة المصالح، والأمر له وجه بلا شك إن عرفنا مشكلة الديمقراطية الأمريكية وفكرة وجوب الدعم المالي وخطورة معاداة أرباب المال والإعلام حتى لو كنت رجلا بروتستانتي أبيض وبليونير مثل ترامب! لكن في رأيي أن الأمر يُنسى منه عمدا كلمة أيزنهاور الشهيرة التي رُدِّدت قبله وبعده: نحن حضارة يهودية مسيحية Judeo Christian Civilization! الغالب أن أيزنهاور هنا كان يقصد أمريكا خاصة – وإلا فإطلاق ذلك على أوروبا حُمق – وهو ليس مُخطئا للاعتبارات التي ذكرتها بالأعلى.

إن قصة علاقة أمريكا باليهودية قد يُبسِّطها (وقد يُسطحها كذلك) أن تعتبر عالمنا فيه زوج من إسرائيل: إسرائيل الكبرى وهي أمريكا، وإسرائيل الصغرى وهي الكيان الوضيع الذي يعيش بيننا.

أما تدوير الأمور كلها على المصالح كما يفعل الواقعيون بتعصبهم المادي الفج، أو على الاستعمارية كما يردد ما بعد الاستعماريين باختزالهم التاريخ والشيطنة الأوروبية، فخطأ فاحش يقلل من أثر العقيدة والدين في تكوين البلاد عامة وأمريكا خاصة -سواء الدين التقليدي أو العلماني- أو حتى يستبعده تماما.

إن ساسة الدولتين يتفقون في الكثير اعتقادا وتديُّنا وحضارة بل وفي أسلوب مواجهة الأعداء والمُتَحدِّين، فحتى لو تضاربت مصالحهم سيتجاذبون في هذه الجوانب وسيتآزرون معا / ومن يعجب كيف لا تحرك المجازر اليهودية الإسرائيلية الحالية في المسلمين والعرب قلوب الساسة الأمريكيين، هو شخص لا يعرف ما هي أمريكا أصلا!

عمرو عبد العزيز

كاتب وباحث درس في ‏كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى