فاتن فاروق عبد المنعم تكتب: بقعة ضوء (15)
بلاد ما وراء النهر:
نهر جيحون (أموداريا حديثا) البلاد التي تقع خلفه كانت تتحدث الفارسية ولكن الحكومة المركزية للدولة الساسانية لم تكن تقبض عليها بما يكفي، حيث كانت هناك بلاطات أخرى في قاع المدينة وقلاع الجبال بالإضافة للقبائل التركية التي كانت تحكمها رئيس لكل قبيلة فيما يشبه الكانتونات المعزولة (كأنهم أقطاب ثانوية وبالطبع تضعف الحكومة المركزية) وهذا الترتيب يمتد حتى الحدود شرقا مع الصين حيث الحاميات القوية والمنعة التي تتمتع بها الصين فظل المسلمون مائة عام منذ فتح مرو حتى انتصروا في معركة تلاس النهائية التي قضت على احتمالية تدخل قوات الصين.
(لاحظوا مدى المثابرة والديمومة التي كانوا يورثونها لبعضهم البعض جيلا يسلم جيل آخر) خلال هذا القرن كانت إغارات المسلمين كثيرة من مرو عبورا لنهر جيحونكي يبلغوا طخارستان وبخارى وسمرقند والصغد وخوارزم وأوزباكستان وطاجيكستان.
لم تتوقف هجماتهم خلال قرن من الزمان حتى بلغوا مآربهم، لم يهنوا في ابتعاء القوم حمية لله وإعلاء لكلمته، فقط هذا ما كان يدفعهم كي يلقوا الله وأقدامهم مغبرة بثرى البلاد التي بلغوا فيها الدعوة.
(الآن الصين التي تنكل بمسلمي الروهينغا في ميانمار التي كانت تسمى أراكان سابقاوتسومهم سوء العذاب بمباركة الأمم المتحدة علينا، تبيع لنا نحن غثاء السيل كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ دون أن يطرف لنا جفن لأجل إخواننا في الدين والذي دونه يسقط كل الأنساب يوم القيامة، فلكل منا شأن يغنيه، فلم نبذل أي جهد يذكر من أي نوع من أجل هذا الدين الذي لا نستحق شرف الانتماء إليه، فلم يوجد في أي حقبة من تاريخ الإسلام من هم أسوأ منا ونحن نستحق كل ما ألم بنا لأننا لا ننتصر لله أبدا)
أشداء على المؤمنين:
وعن قوة ومنعة جيوش آسيا الوسطى يقول كينيدي أنهم لا يختبئون في المباني يقاتلون من خلالها كالفرس والروم وإنما ينظمون صفوفهم بتراتيبية محسومة على الأرض بما يخيف عدوهم:
“وهم يفضلون المعارك التي يخوضونها على مدى طويل، والكمائن والإحاطة بخصومهم، والتقهقر المصطنع والعودة المفاجئة، والتشكيلات التي تشبه الوتد، أي في مجموعات مبعثرة، وعندما يجبرون أعدائهم على الفرار، يتركون كل ما عدا ذلك، ولا يقنعون مثل الفرس والروم وغيرهم من الشعوب، بمطاردتهم بمسافة معقولة ونهب ما معهم، ولكنهم لا يتركونهم حتى يحققون الدمار الكامل لأعدائهم، ويستخدمون كل وسيلة لتحقيق هذه الغاية، فإذا ما لجأ بعض أفراد العدو الذي يطاردونه إلى قلعة فإنهم يبذلون جهودا مستمرة متواصلة لكي يكتشفوا أي نقص في الضروريات اللازمة للخيول أو الرجال، ثم ينهكون أعدائهم بمثل هذا النقص ويجبرونهم على قبول الشروط التي تناسبهم، ومطالبهم الأولية خفيفة تماما، وعندما يوافق العدو عليها يفرضون شروطا أشد وطأة”
مائة عام كانت من المرارة والحروب الضروس والأحداث الجسام، فاجعة تلو فاجعة، بل حدث أن حارب المسلمون بعضهم البعض خاصة بعد وفاة الخليفة يزيد بن معاوية الأموي (قبائل مضر وربيعة وبكر بن وائل في تلك المناطق النائية، حيث عادت بينهم النعرات القبلية السابقة على الإسلام واحتدام الأمر كان بسبب نزاعهم على ولاية خرسان، فانتكسوا وهزموا ولكنهم سرعان ما عادوا إلى رشدهم ليواجهوا الكتلة الضخمة من سكان هذه البلاد الذين تكتلوا لمواجهتهم)
طبيعة قاسية:
المسلمون واجهوا البدو الذين ينحدرون من أصول مختلفة في مناطق الإستبس الشاسعة بمناخها القاري ذو الحر الشديد صيفا والبرد الشديد شتاء، وهم أشداء أقوياء يتميزون بالفساد والخيانة، لا دين لهم ولا يحفظون العهود وينقضون الاتفاقيات، يواجهون أعدائهم بالزرد والسيوف والأقواس والحراب، يسودون على أعدائهم بالخديعة والهجمات المفاجئة وقطع الإمدادات أكثر من اعتمادهم على القوة، وعنهم يقول كينيدي:
“كان هؤلاء المحاربون الأشداء هم الذين واجههم العرب عندما عبروا نهر أموداريا الكبير، وانبهروا بهم”
ما لم يذكره كينيدي هو أن العرب لم يجبنوا ولم يهنوا ولم يخافوا بل تحملوا الأهوال ولم تكن فتوحاتهم مجانية بل ضحوا بكل غال ونفيس، منهم من خرج للجهاد ولم يعد لآله مرة أخرى ومات ودفن في بلاد نائية وربما فقد لم يعثر له على أثر، ولو لم يكن الدافع أنفس وأغلى مما يدعيه زورا وبهتانا كينيدي المنحاز ضد المسلمين لما خرجوا من بلادهم بسيوف بالية ليواجهوا من هم أكثر منهم قوة ومنعة وعتادا وعدة وثراء، ولو أنهم عقدوا مقارنة بسيطة بينهم وبين ما يشرعون في الزحف إليهم ما تحركوا بوصة من شبه الجزيرة نظرا للبون الشاسع بين الجيشين، إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الجيش كان قثم بن العباس عم الرسول، ومنهم أبناء عمومته مما دفع كينيدي لأن يقول:
“على هذا النحو كان يروق للبدو أن يتذكروا أبطالهم، أشداء، منعزلين، يعتمدون على أنفسهم، جسورين، كانت هذه هي الروح التي أخذت الجيوش العربية إلى حدود الصين”
مائة عام مورست خلالها نجاحات وإخفاقات ومؤامرات ودسائس وخيانات وصولات وجولات وتحالفات وكر وفر وملاحقات، وأصابوا وأخطأوا وتفاصيل كثيرة لم أذكرها حتى لا أغرقك في مروج التيه التي تفضي إلى لا شيء، وفي كل هذه المروج لا يعنيني التفاصيل التي انتهت إلى نجاحهم في تحقيق مأربهم، ولكن يعنيني لماذا نجحوا؟
هذه هي سيرة السابقين التي تقدم لنا في فيلم لمدة ساعتين فيه من الزيف والالتواء ما يضيع مسحة الصدق التي تفرض نفسها على صناعه ولكنهم يحيلون التفاصيل لتلائم داخلهم المعوج ومآربهم التي لا تبغي بك الخير، وأنت تتلقى في صغار دون اعتراض.
نجحوا لأنهم كان مسكونين بمشروع كبير ورثوه لأبنائهم واشتغلوا عليه دون كلل أو ملل، فقط هو الدافع والملح عليهم، إذا لم يكن لك مشروع بصفة شخصية وبصفة عامة، فسوف تصبح ريشة في مهب الريح، مفعول بك طالما أنك لست الفاعل، أنت مستهلك فقط لمنتوج الآخر، إذن أنتترس في مشروع الآخر الذي لديه مشروع، أمريكا لها مشروع، الصين لها مشروع، روسيا حتى بعد تفكك اتحادها عندها مشروع، وإلا ما وقفت وحدها في مواجهة العالم (حرب أوكرانيا) فما هو مشروعك؟
هيو كينيدي الذي يمارس الالتواء والزيف المفضوح دون خجل كان يصل رغما عنه إلى نقطة يعترف فيها صاغرا بنجاحهم، ولكنه لا ينسبه للأسباب الحقيقية، ألا وهي هذا الدين الذين تلقوه بصدور نقية ونفوس شفيفة، فاندفعوا بمنهجه وتعليماته في مجاهل ما وطأتها أقدامهم من قبل
متحملين الصعاب تلو الصعاب في تحدي مع أنفسهم ومع الأقوام الذين حلو عليهم، والذي يتحدى لابد أن لديه ما يستقوي به وإلا ما تحدى، أما الذي استقووا به لم يكن سوى موعود الله لهم بميراث الأرض إذا صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) 105 الأنبياء
فالصدق مع الله هو مفتاح النجاح الدائم في كل شيء، بل إنه السبب الوحيد لنوال خير الدارين، فهل نصدق النية مع الله، أم أن نوايانا دائما ممزوجة بمتعلقات أخرى تعيقنا وتعرقلنا.
وللحديث بقية إن شاء الله